وفق فتاوى سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله)
كنت مسافراً لبلد من البلدان عن طريق البحر، فلما أصبحت السفينة في عُرضه ذُعِرتُ من عظمته فأخذتُ مردداً مراراً وتكراراً بصوت مسموع بعض آيات الله، كقوله تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ)[1]، وكقوله تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ)[2]، أو قوله تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...)[3]، فانتبهَ لي أحد المسافرين وكان يبعد عني بضع خطوات، وقال لي: ربما كان سفرك الأول بحراً؟
فقلت له: بلى هو سفري الأول، وكيف عرفت؟
قال: سمعتك تردد آيات الله فزِعاً من رؤيتك للبحر كما أظن.
قلت: لا، عند رؤيتي البحر أحسستُ بحجمنا وضعفنا أمام عظمة الله وخلقه.
فقال: هو كون فسيح قد خلقه الله وقدّره، وفيه دلالة على عظمة الخالق وقدرته، وهذا البحر شاهد على ما نقول فهو مدّ البصر، ويغطي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، والماء كما تعلم هو سرّ الحياة وعصبها، فيمكن استخدامه في شتى المجالات فبعد تصفيته والتخلص من ملوحته العالية يمكن شربه، ويمكن التطهّر والتطهير به فهو غير نجس وإن أسقطْتَ فيه ما شئتَ من النجاسة فيبقى على طهارته إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: اللون أو الطعم أو الرائحة.
فقلت له: مهلاً يا أخي، أليس مذكوراً في كتب الفقه عندنا أن الماء يتنجس إذا لامس عين النجاسة؟
فقال: هذا في الماء القليل، وما قلته آنفاً في الماء الكثير.
فقلت: وما أمثلة الماء الكثير؟
قال: هو ما بلغ قدر الكُرّ، أي ما كان مكعّبه 36 شبراً، بمعنى أن حجمه 36 شبراً مكعباً، كماء خزاناتنا الموضوعة على سطوح منازلنا - إذا كانت بهذا الحجم - وكماء الإسالة (الصنبور) وماء الخزانات الأقلّ من كرّ إذا اتّصل بها ماء الإسالة ما لم ينقطع، ومياه الأنهار والبحار والمحيطات والآبار والعيون.
فقلت: ولو اتصل الماء القليل المتنجس بالكثير، فهل يبقى متنجساً؟
فقال: كلا، يصبح حكمه حكم الكثير حينئذ ما لم ينقطع عنه الاتصال، فماء القِدْر الموضوع في المغسلة إذا فتحت عليه أنبوب الماء المتّصل بالكُر، أو ماء الإسالة، صار ماء القِدْر كثيراً، كل ذلك، مادام الاتصال موجوداً.
فقلت: وماذا لو وقعت قطرات من الدم في خزّان ماء بحجم كرّ؟
قال: لا يتنجّس إلاّ إذا كثرت القطرات فتغيّر لون ماء الكر فاصفرّ بتأثير لون الدم.
فقلت: ولو وقعت في إناء صغير؟
قال: يتنجّس من فوره، سواء أتغير الوصف أم لا.
فقلت: ولو فتحنا عليه ماء الإسالة فعاد الماء إلى صفائه؟
فقال: طهُر ماء الإناء ولكنه يعود فيتنجس مرّة أخرى إذا انقطع عنه ماء الإسالة؛ لان الإناء إذا تنجس لم يطهر إلاّ بغسله ثلاث مرات (على الأحوط وجوباً).
فقلت: ولو صببْنا ماءً من إبريق على شيء نجس، فهل يتنجّس ماء الإبريق؟
قال: كلا، لأن النجاسة لا تتسلّق إلى عمود الماء الساقط من الإبريق، فلا عمود الماء يتنجّس ولا ماء الإبريق.
فقلت: أسمعُ أحياناً أن الماء ينقسم إلى مطلق ومضاف، فما الفرق بينهما؟
قال: الماء المطلق: ما يصح إطلاق لفظ الماء عليه بلا إضافة كماء البحر والنهر والذي نشربه في بيوتنا وهذا هو الذي ينقسم إلى الكثير والقليل الذي تحدثنا عنه.
وأما المضاف: فهو ما لا يصح إطلاق لفظ الماء عليه بلا إضافة، كماء الرمان وماء الورد، وهذا يتنجّس بمجرد ملاقاة النجاسة سواء أكان كثيراً أو قليلاً، كما أنه لا يمكن التطهير به وإن كان طاهراً بنفسه، ومن أمثلته المهمّة هي الخزانات الكبيرة التي يصنع فيها الخل أو الطرشي، أو الدبس أو الراشي ونحوها من المائعات، فإذا سقط فيها فأر أو عصفور ومات فإن هذا الخزان بأكمله يكون نجساً، وهذا من الأحكام التي يغفل عنها كثير من الناس.
وبعدها شكرته على هذا الإيضاح المستفيض وتفارقنا.
المصدر: مجلة ولاء الشباب العدد (36)