غزوة بدر الكبرى

على مدى ثلاث عشرة سنة كان النبي(صلى الله عليه وآله) يجاهد من أجل نشر الإسلام وأحكامه في مكة. إلا انه لم يجد أرضاً خصبة لإنبات هذه البذرة ونموها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقده لأهم ناصرين له وهما عمه أبو طالب، وزوجه أم المؤمنين(عليهما السلام)، لذا كان الأمر الإلهي بالهجرة إلى المدينة المنورة، وبوصول النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة بدأت حقبة جديدة، أسس خلالها(صلى الله عليه وآله) دولته دولة الإسلام الخالد. نعم، هاجر النبي(صلى الله عليه وآله) والمسلمون تاركين أموالهم وما يملكون في مكة، فما كان من قريش إلا أن صادرت هذه الممتلكات واستولت عليها. وبعد أن استقر النبي(صلى الله عليه وآله) في دار هجرته، أخذ يؤسس دولته الإسلامية ويعزز كيانها حتى تميزت بعد السنة الثانية بمميزات عدة منها: أن النبي(صلى الله عليه وآله) أخذ بالضغط على قريش وذلك من خلال إرسال السرايا إلى خارج المدينة والتعرض للقوافل التجارية التابعة لقريش، وهذه السرايا تمثل استعراضاً عسكرياً ومناورات حربية هدفها إرسال رسالة إلى المشركين، بأن المسلمين لديهم القدرة والقابلية على المواجهة، كما أنهم قادرون على تغيير الخارطة وميزان القوى في المنطقة، ولهم القدرة على تهديد تجارة قريش واعتراضها. لم يكن هدف النبي(صلى الله عليه وآله) من بعث السرايا الحصول على الأموال، بل كان الهدف جمع المعلومات عن العدو ورصد تحركاته، وبيان أن المسلمين قوة فاعلة في المنطقة، وتشكيل ضغط على قريش للاعتراف بالإسلام والمسلمين وعدم إلحاق الأذى بهم، وإعلام قريش بأن طريق تجارتهم أصبح في متناول يده، وبالتالي استطاعته أن يشل اقتصاد قريش.

كما أن من المميزات والأحداث العظيمة التي حدثت في هذه السنة، والتي لها أثر كبير في حياة الإسلام والمسلمين هي واقعة بدر الكبرى، ويعبّر عنها بالغزوة، والغزوة مصطلح درج عليه أهل التاريخ ويراد به المعركة التي كان يقودها النبي(صلى الله عليه وآله) بنفسه. مثل غزوة العشيرة، التي كانت بقيادته(صلى الله عليه وآله)، ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثمّ رجع إلى المدينة، ولم يلق كيداً، وفيها كنّي علي(عليه السلام) بأبي تراب. أما السرية فهي التي لم يشترك بها(صلى الله عليه وآله)بنفسه بل يعين لها أحد القادة، كالسرية التي بعثها(صلى الله عليه وآله) بقيادة حمزة بن عبد المطلب وعقد له أول لواء عسكري، وغيرها من السرايا.

تاريخ غزوة بدر:

في السنة الثانية، السابع عشر من شهر رمضان المبارك كانت غزوة بدر الكبرى بين المسلمين ومشركي مكة، قرب بئر ماء تدعى (ماء بدر) على بعد (160كم) من المدينة تقريباً بين مكّة والمدينة، خرج الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه، عدد أصحاب طالوت، وكان معهم من الإبل سبعون بعيراً يتعاقبون عليها، الإثنان والثلاثة، وكان معه من الخيل: فرس للمقداد قطعاً بإجماع المؤرخين، وخرجت قريش بألف مقاتل تحمل أحقادها وكبرياءها، فجاءت ونزلت قرب ماء بدر.

تحليل:-

لقد كان لا بد للمسلمين من الاستفادة من حق الدفاع عن النفس في مقابل المكيين، الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم، ويصدون عن سبيل الله، ومن حق كل أحد: أن يسعى بالطرق المناسبة، من أجل أن يمتلك حرية الرأي، والفكر، والعقيدة، وحرية الدعوة إلى الله، ولا سيما حين يكون الطرف الآخر مصراً على استعمال العنف، وكافة الأساليب الخارجة عن أنماط السلوك الإنساني، فالإسلام لا يريد أن يجبر أحداً على الدخول فيه، وإنما يريد أن يحصل على الحرية في الرأي وفي الاعتقاد، وفي الموقف، وحتى حين ينتصر على أعدائه، فإنه يضع أمام من ينتصر عليهم عدة خيارات، ليس اعتناق الإسلام إلا واحداً منها، وكان من يعتنق الإسلام يعتنقه بملء رغبته، وحريته، وإرادته، ومن دون أي ضغط من قبل المسلمين، ولقد اعتنقت كثير من البلدان الإسلام بمجرد اطلاعها عليه، من دون انتظار الفتح الإسلامي.

ولكن ذلك لا يعني أن يقف الإسلام والمسلمون مكتوفي الأيدي أمام أي اضطهاد، أو اعتداء، أو ظلم يمارس ضدهم، وأن يخضعوا لضغوط ولإرادات الآخرين، الذين لن يرضوا إلا بالقضاء على الإسلام والمسلمين نهائياً. كما أن ذلك لا يعني أن لا يعد المسلمون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة، ومن رباط الخيل يرهبون به عدو الله وعدوهم، لأن الإسلام الذي يدعون إليه، ويطالبون بحرية التفكير والنظر فيه، ليس مجرد طقوس فردية، وتزكية نفسية، وإنما هو نظام عام شامل يريد أن يقود عملية تغيير شاملة على مستوى العالم بأسره، الأمر الذي يحتّم أن تتوفر الحماية الكاملة لهذا الإسلام، الذي لا بد أن يصطدم بأصحاب الأطماع، والأهواء، وبالجبارين الذين يحكمون الناس بوحي من مصالحهم ورغباتهم. نعم، لا بد من الحماية الكافية ولا بد من استعمال أسلوب القوة إذا لم يمكن تأمين حرية الفكر، والرأي، والعقيدة إلا بذلك، وليوجد من ثم الجو والمناخ المناسب لتطبيق الجانب التشريعي للإسلام.

فالمسلمون إذا قاتلوا، فإنما يقاتلون انطلاقاً من حقهم الذي جعله الله لهم، ومن أجل ذلك الحق وفي سبيله، وطلباً له، على حد تعبير الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في قوله لعلي(عليه السلام)، وحمزة وعبيدة: (فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم)؟، وكما قرره الله تعالى حيث يقول: >أذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهَ<[1]، فالإذن بالقتال للمسلمين إنما هو في صورة كون غيرهم قد بدأهم به، بالإضافة إلى كونهم قد أخرجوا من ديارهم.

ما هو الحق الذي جعله الله عز وجل للمسلمين:

الحق الذي أشار إليه النبي(صلى الله عليه وآله) هو حق حرية الرأي والعقيدة، وحق الدفاع عن دين الله، وعن النفس، وردّ البغي والعدوان في مقابل القرشيين الذين عذبوهم، وأخرجوهم من ديارهم، وسلبوا أموالهم، بل وقتلوا منهم من قتلوا، وبغوا عليهم أقبح البغي؟!. وخلاصة الأمر: أنهم يريدون أن يعيشوا أحراراً، وأن يدافعوا عن دين الله في مقابل من يريد الاستمرار في الانحراف والتعدي. وللمظلوم حق في أن يطالب بإنصافه من ظالمه، والباغي عليه، نعم، قريش أرادت إطفاء نور الله، وأصرت على حرب المسلمين وإذلالهم.

مقدمات الغزوة:

وذلك أن العير التي طلبها المسلمون في غزوة العشيرة وأفلتت منهم إلى الشام، ظل النبي(صلى الله عليه وآله) يترقبها، حتى علم بعودتها، وكانت بقيادة أبي سفيان، ومعه بين ثلاثين إلى سبعين راكباً. وفيها أموال قريش، حتى قيل: إن فيها ما قيمته خمسون ألف دينار، في ذلك الوقت الذي كان فيه للمال قيمة كبيرة، فندب رسول الله(صلى الله عليه وآله) المسلمين للخروج إليها، يقول عدد من المؤرخين: وأبطأ عن النبي(صلى الله عليه وآله) كثير من أصحابه، وكرهوا خروجه، وكان في ذلك كلام كثير واختلاف. وتخلف بعضهم، كعثمان بن عفان الذي تخلف عن بدر في جملة من كرهوا الخروج مع النبي(صلى الله عليه وآله). ويؤيد ذلك عدة أمور منها: أن عبد الرحمن بن عوف - وهو اخو عثمان بالمؤاخاة - قد عيّره بالتخلف عن بدر، فقد ذكروا أن عبد الرحمن لقي الوليد بن عقبة، فقال له الوليد: ما لي أراك قد جفوت عثمان؟ فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم عينين -يوم أحد - ولم أتخلف يوم بدر. ونلاحظ أن مؤرخي السلطة رووا أن عثمان اعتذر عن تخلفه يوم بدر بتمريضه رقية[2].

لكن الحقيقة غير ذلك وهي أن هناك صحابي آخر تأخر عن الخروج مع النبي(صلى الله عليه وآله)لتمريض أمه، فأمره النبي(صلى الله عليه وآله)بالمقام معها، وهو أبو امامة بن ثعلبة، وقد ضرب له النبي(صلى الله عليه وآله)بأجره وسهمه[3].

وقد حكى الله تعالى في كتابه الكريم كراهة البعض للخروج، فقال: >كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ<[4]

نعم لقد كرهوا ذلك لعلمهم بأن قريشاً لن تسكت على أمر خطير كهذا.

أبو سفيان ينجو:

غيّر أبو سفيان طريقه واتجه نحو الساحل بعد أن عرف بمسير المسلمين للاستيلاء على القافلة، وأرسل إلى قريش من يخبرهم بتعرض النبي(صلى الله عليه وآله) لقافلتهم، فجاءهم النذير يناديهم: يا آل غالب، يا آل غالب، اللطيمة، اللطيمة، العير العير، أدركوا، وما أراكم تدركون، إن محمداً والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم، فتهيأوا للخروج، وما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرج مالاً لتجهيز الجيش، وقالوا: من لم يخرج نهدم داره، وخرج معهم العباس بن عبد المطلب...، وأخرجوا معهم القيان يضربون الدفوف[5].

وخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، فلما كان بقرب بدر أخذ عيناً للقوم فأخبره بقريش، فأمر بحبسهم، فحبسوا، فعلم مشركو قريش، ففزعوا، وندموا على مسيرهم، حيث إنهم بعد أن علموا بنجاة العير أصروا على المجيء إلى بدر لتهابهم العرب. وقد اعترف عتبة بن ربيعة، الذي كان ولده أبو حذيفة مع النبي(صلى الله عليه وآله): بأن مسيرهم بعد نجاة عيرهم كان بغياً منهم وعدواناً، وبذلت محاولة للاتفاق على الرجوع، لكن أبا جهل أبى ذلك، وقال: لا، واللات والعزى، حتى نقحم عليهم بيثرب، ونأخذهم أسارى، فندخلهم مكة، وتتسامع العرب بذلك، ولا يقوم بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه. فخاطب النبي(صلى الله عليه وآله) قريشاً قائلاً: (يا معشر قريش إنّي أكره أن أبدأكم، فخلـّوني والعرب وارجعوا)[6].

أهداف الحرب:

الملاحظة الهامة هنا هي: أن النبي(صلى الله عليه وآله) يصرح بأن حرب بدر حرب مصيرية، وأن هدفه من هذه الحرب هو التمكين لعبادة الله تعالى، وليس عبادة الذات، أو المال، أو الجنس، أو الجاه، أو السلطان، ولا غير ذلك. إنّ هدف الحرب الهداية والإصلاح لا الإبادة والانتقام، ولذلك أنزل الله تعالى على نبيه، >وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ<[7]، أما هدف المشركين، فهم أنفسهم قد أفصحوا عنه، وهو لكي تهابهم العرب، وأن لا يكون بينهم وبين متجرهم أحد يكرهونه.وشتان ما بين الهدفين، وكذلك ما بين نتائج الحرب.

النبي(صلى الله عليه وآله) يطلب المشورة:

لما كان المسلمون قرب بدر، وعرفوا بجمع قريش، ومجيئها، خافوا وجزعوا من ذلك، فاستشار النبي(صلى الله عليه وآله) أصحابه في الحرب، أو طلب العير، فقام أبو بكر، فقال: يا رسول الله، إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، وما ذلت منذ عزت، ولم تخرج على هيئة الحرب، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): إجلس، فجلس، فقال(صلى الله عليه وآله): أشيروا عليَّ، فقام عمر، فقال مثل مقالة أبي بكر، فأمره النبي(صلى الله عليه وآله) بالجلوس، فجلس. ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله، إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، والله لو أمرتنا: أن نخوض جمر الغضا -الغضا شجر من الأثل خشبه من أصلب الخشب-، وشوك الهراس لخضناه معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: >فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ<[8] ولكنا نقول: اذهب أنت وربك؛ فقاتلا، إنا معكم مقاتلون، والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك، ولو خضت بحراً لخضناه معك، ولو ذهبت بنا برك الغماد -يعني مدينة الحبشة- لتبعناك. فأشرق وجه النبي(صلى الله عليه وآله)، ودعا له، وسر لذلك، وبهذه الكلمة غيّر الموقف وأعطى المقاتلين عزماً وإقداماً، ثم قال(صلى الله عليه وآله): أشيروا عليَّ - وإنما يريد الأنصار، لأن أكثر الناس منهم، ولأنه كان يخشى أن يكونوا يرون: أن عليهم نصرته في المدينة، إن دهمه عدو، لا في خارجها، فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، كأنك أردتنا؟فقال: نعم. فقال: فلعلك قد خرجت على أمر قد أمرت بغيره؟ قال: نعم. قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت. إلى أن قال: والله، لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسُرّ النبي(صلى الله عليه وآله)، وأمرهم بالمسير، وأخبرهم بأن الله تعالى قد وعده إحدى الطائفتين، ولن يخلف الله وعده، ثم قال: والله، لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة الخ..[9] وسار حتى نزل بدراً. وهكذا أصحاب المواقف يُعرفون عند المحك، فمن موقف الشيخين من جهة، وموقف المقداد وسعد من جهة أخرى، يتضح زيف ما زعموا من أحاديث حول تفضيل كل أصحاب بدر على لسان الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله). ويتضح هذا الأمر أكثر عندما نلاحظ سرور النبي(صلى الله عليه وآله) بكلام المقداد المنسجم مع أهدافه(صلى الله عليه وآله) ومع المنطق السليم، حتى أننا نجد أن من الصحابة من يتمنى أن يكون هو صاحب هذا الموقف، فقد ذكروا أن ابن مسعود قال عن موقف المقداد هذا: شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به[10]، كما أننا نلاحظ أن المقداد وسعد بن معاذ لم يقدما بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) أمراً، ولم يبديا رأياً، وهذا لعمري هو الأيمان بعينه، وغاية التسليم، وقمة الوعي، تطبيقاً لقوله تعالى: >وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ<[11]، أما ما قاله الآخران فاستحق الإعراض من قبله(صلى الله عليه وآله) لأنه كان ينطوي على عدم الإيمان، كما كان يتعارض مع أهداف النبي(صلى الله عليه وآله) وما يرمي الوصول إليه.

لماذا الاستشارة:

من المسلّم به أن النبي(صلى الله عليه وآله) لم يكن بحاجة إلى رأيهم، ولكنه(صلى الله عليه وآله) استشارهم لأنهم سوف يتحملون أعباء الحرب، ويعانون من نتائجها، على مختلف الأصعدة، كما أنه(صلى الله عليه وآله) يهدف إلى كشف دخائل نفوسهم، وتمييز الشجاع من الجبان، والمؤمن من المنافق، والولي من العدو، وغيرها من الأمور. كما أن هناك أمراً آخراً وهو أنه يبدو أن الأنصار كانوا يرون: أن عليهم نصر النبي(صلى الله عليه وآله) في دارهم، إن دهمه أمر، فيمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم. أما إذا كان هو نفسه المهاجم لغيره، أو كانت الحرب في غير بلدهم، فلا نصرة له عليهم، وذلك هو ظاهر ما تم الاتفاق عليه في بيعة العقبة التي كانت قبل الهجرة. ويدل على ذلك: أن المؤرخين يصرحون في غزوة بدر: أنه(صلى الله عليه وآله) كان يخشى ألا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا ممن دهمه في المدينة، وليس عليهم أن يسير بهم.

في بدر:

سبق المشركون إلى بدر، فنزلوا في العدوة القصوى، في جانب الوادي مما يلي مكة، حيث الماء، وكانت العير خلف المشركين. قال تعالى: >وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ<[12]. ومحل نزولهم كان صلباً، ونزل المسلمون في العدوة الدنيا، أي جانب الوادي مما يلي المدينة، حيث لا ماء، وحيث الأرض رخوة، لا تستقر عليها قدم، مما يعني أن منزل المسلمين كان من وجهة نظر عسكرية غير مناسب. ولكن الله أيد عباده ونصرهم على عدوهم، وجاء المطر ليلاً على المشركين، فأوحلت أرضهم، وعلى المسلمين، فلبدها، وجعلها صلبة، وجعلوا الماء في الحياض.

وهكذا بدأت المعركة ودارت رحاها طاحنة مدمّرة، وكان لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) في هذه المعركة دور فعّال وظهرت شجاعته المتميّزة بين صفوف المسلمين حيث قتل لوحده نصف قتلى المشركين، واشترك مع المسلمين في النصف الآخر، وتدخّلت يد الغيب، وجاء الإمداد الملائكي للنبيّ(صلى الله عليه وآله) فحقـّق الله النصر للإسلام بسيف علي(عليه السلام) وبمدده الغيبي. وعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): لما نظر النبي(صلى الله عليه وآله) إلى كثرة المشركين، وقلة المسلمين، استقبل القبلة، وقال: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، فنزلت الآية: >إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ الله إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ<[13])[14]، واندحرت قريش تجرّ أذيال الخيبة والخسران، إذ تشتت عسكرها بين قتيل وجريح وأسير، وانهزم الباقون. إنّ يوم بدر يوم عظيم أعزّ الله فيه الإسلام والمسلمين، ورفع معنوياتهم، وأذلّ الشرك والمشركين، وهزّ عروش الظالمين، وهو اليوم الذي سمّاه القرآن بيوم الفرقان، كما في الآية الكريمة: >وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَان<[15]، وكان عدد القتلى من المشركين سبعين رجلا ً، وقد أُسر منهم سبعين رجلاً، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، واستشهد من المسلمين سبعة مجاهدين.

أن النبي(صلى الله عليه وآله) قد اشترك في حرب بدر بنفسه، وقاتل بنفسه قتالاً شديداً[16]، كما أنهم يروون عن علي(عليه السلام)أيضاً قوله: لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله(صلى الله عليه وآله)، فكان أشد الناس بأساً، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه[17].

 


[1] سورة الحج: آية 39-40.

[2] مسند أحمد، ابن حنبل: ج1، ص 68 وص75.

[3] راجع الاستيعاب، ابن عبد البر: ج4، ص1601.

[4] سورة الأنفال: آية5 - 6.

[5] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج19، ص216.

[6] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج54، ص273.

[7] سورة الأنفال: آية61.

[8] سورة المائدة: آية24.

[9] المغازي، الواقدي: ج1، ص48.

[10] راجع تاريخ الإسلام، الذهبي: ج2، ص81.

[11] سورة الأحزاب: آية36.

[12] سورة الأنفال: آية42.

[13] سورة الأنفال: آية9 -10.

[14] راجع الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج5، ص198.

[15] سورة الأنفال: آية41.

[16] راجع المغازي، الواقدي: ج1، ص77.

[17] راجع تاريخ الطبري، الطبري: ج2، ص135.