تمهيد:
من المعلوم عند أهل البصائر أن العقيدة ليست أمراً هامشياً في حياة الإنسان، بل لها الدور المحوري في تشكيل الرؤية الفكرية والمعرفية عنده، وهي التي تحدد حركة الإنسان، ونظرته للمحاور الثلاثة الأساسية في حياة الإنسان أي (الله) و(العالم) و(الإنسان).
ثم يتفرع على هذه الأمور الثلاثة الأسئلة المحورية في حياة الإنسان وهي: أنه من أين؟ والى أين؟ ولماذا خُلِق؟
وسوف يختلف الجواب عن هذه الأسئلة باختلاف تحديد الموقف من المحاور الثلاثة السابقة.
مبدأ الغائية في الوجود:
هناك سؤال جوهري يطرح نفسه على ضوء ما قدمنا وهو هل ان الإنسان خُلِق لأجل غاية وهدف، أم خُلِق صدفة وعبث؟
الجواب: لا شك باننا لو قلنا بان لهذا العالم خالق عليم حكيم، وان من المستحيل وجود كل هذه الموجودات صدفة بدليل العقل والفطرة والتجربة.
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾[1].
اذن لابد لهذا الوجود من خالق، ويجب ان يكون لهذا الخالق هدف وغاية في خلقه لهذه الموجودات.
وإذا أردنا أن نترك شأن بقية الموجودات، ونركّز الكلام على الإنسان فحسب لأنه محور هذا العالم، فمن المؤكّد انه داخل تحت نظام الغائية، لأنه مبدأ لا يمكن رفع اليد عنه بأي حال من الأحوال، وهنا نريد ان نسأل عن غاية وجود الإنسان ما هي؟
الجواب: إن غاية وجود الإنسان ترتبط بالتكامل الوجودي بحيث يتدرج في مدراج الوجود حتى يصبح إنسانا كاملا ينطبق عليه قوله عز وجل: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[2] وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾[3]، وهو ما وصل اليه الوجود المقدس لسيد الخلق محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وهو المعبر عنه بلسان العرفاء بـ (الانسان الكامل).
والإنسان الكامل هذا يتصف بأنه: (قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَأَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ وَلَطُفَ غَلِيظُهُ وَبَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَسَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ)[4]. فهو الكامل من حيث الإدراك والعقل، والكامل من حيث تهذيب النفس والسيطرة عليها من جميع القوى، وهو الكامل من حيث بذل الجهد في القرب من كمال الوجود المطلق حتى أصبح يتشبه به كما قال (صلى الله عليه وآله): (تخلّقوا بأخلاق الله)[5].
ومن الجدير بالذكر ان نقول: بان الغائية تنقسم الى قسمين:
الأولى هي: الغائية الفردية.
والأخرى هي: الغائية العامة الاجتماعية (النوعية).
الغائية الفردية:
اما الغائية الأولى، فقد عرفنا أن الإنسان كفرد خُلِق لأجل الوصول الى حالة النضوج الإنساني الكامل على جميع المستويات، من خلال السير والسلوك الى الله تعالى، وتطبيق الأوامر الإلهية سواء بالعبادات او المعاملات، وهو الانقياد الكامل وتمحض العبودية لله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُنِ﴾[6]، فالإنسان من خلال ذلك يُصبح مظهرا لأسماء الله تعالى، ومحلا لتجلّياته، وكلما ازداد علما وعملا ارتفعت درجته الوجودية حتى يبلغ الدرجة الأقصى.
الغاية الاجتماعية (النوعية):
واما القسم الثاني وهي الغائية الاجتماعية النوعية فهي تتعلق بالأمة والنوع البشري ككل وليس بالفرد بالخصوص، كما في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[7]، وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾[8]، وقوله: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[9].
فهذه الغاية لا ترتبط بالفرد بما هو فرد وانما بالأمة والنوع أجمع، أي ان الله تعالى يريد من النوع بما هو نوع أن يصل الى مرتبة الكمال النوعي، أو قل المجتمع الكامل، فكما عندنا فرد كامل لابد أن يكون عندنا مجتمع كامل.
ثم هناك اختلاف في عوامل وعناصر كل واحد من الفرد والنوع.
فلابد من توفير كل المستلزمات لتكامل المجتمع البشري وفق القوانين الإلهية، والسنن الربانية التي هي بمثابة العلل الفاعلية لتحقق ذلك التكامل المنشود.
ان المشروع الإلهي في إرسال الرسل، وإنزال الكتب والتعاليم الإلهية لم يقتصر على الغائية الفردية، وانما عمل على تحقيق وبناء الغائية النوعية بشكل متواز تماما، لوجود الترابط الصميمي بين الفرد والمجتمع، كما قال (صلى الله عليه وآله): (مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى)[10] .
وهذا التربط الصميمي بين الفرد والمجتمع يجعل الإنسان في موضع المسؤولية عن بقية الأفراد في كل المجالات.
قال (صلى الله عليه وآله): (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ)[11]، ولذا نجد ان الشريعة الإسلامية أولت اهتماما كبيرا لمسألة مراعاة المجتمع، وأوجبت اهتمام الأفراد بأبناء النوع البشري ككل من دون استثناء، لأنهم صنفان: (اما أخٌ لك في الدين، واما نظير لك في الخلق)[12] .
إذن التكامل والرفاه، والتطور الاجتماعي لجميع النوع البشري غاية أساسية من غايات الدين، وأحد علل بعثة الأنبياء كما يؤكّد ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[13]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً للّناسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[14].
فمقتضى الرحمة للعالمين، والبشرى لهم بالنعيم والإنذار لهم بالعذاب والجحيم يقتضي كون غاية الرسالة الإلهية إصلاح المجتمع، وإيصاله الى مرحلة النضوج والتكامل من جميع الجهات.
الإمام المهدي (عجل الله فرجه) والتكامل البشري:
من المعلوم ان الإمام المهدي (عجل الله فرجه) سوف يحقق غاية كل الرسالات الإلهية، وأمنيات الأنبياء والأوصياء والمصلحين على طول التاريخ البشري، فهو الذي سوف يملئ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وفي حكومته الزكية سوف يتكامل النوع الإنساني، وهذا التكامل الإنساني سوف يتجلى في المستوى العلمي، والعقلي، والاجتماعي، والاقتصادي، حتى يصبح المجتمع الإنساني في زمان وعصر الظهور المقدس مجتمعاً متكاملاً قد وصل الى غائية خلقته ويصبح النوع البشري خليفة لله في أرضه كما أراده الله تبارك وتعالى.
وسوف نتكلم في العدد القادم - إن شاء الله تعالى- عن مستويات التكامل في عصر ظهوره المبارك.
المصدر: مجلة بيوت المتقين / العدد (61) ـ الصفحة: 20 - 21.
[1] سورة ص: (٢٧).
[2] سورة البقرة: ٣٠.
[3] سورة النجم: ٩.
[4] نهج البلاغة: خ ٢١٨.
[5] بحار الأنوار: ج58 ، ص129 .
[6] سورة الذاريات:٥٦.
[7] سورة ال عمران:١٠٤.
[8] سورة البقرة:١٤٣.
[9] سورة الأنبياء:٩٢.
[10] صحيح البخاري: ح ٦٠١١.
[11] بحار الأنوار: ج٧٢، ص٣٨.
[12] نهج البلاغة:ص427.
[13] سورة الأنبياء:١٠٧.
[14] سبأ: ٢٨.