1- عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ يَحْيَى عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) قَالَ قُلْتُ لَه: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ الله) فَقَالَ: (أَمَا والله مَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ أَنْفُسِهِمْ ولَوْ دَعَوْهُمْ مَا أَجَابُوهُمْ ولَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاماً وحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلَالاً فَعَبَدُوهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)[1].
الأحبار علماء اليهود، جمع الحبر بالكسر أو الحبر بالفتح، وهو العالم، والأوّل أشهر وأفصح، والثاني رجّحه بعض اللغويين والمعنى عندهم: أنّ الحبر بالفتح، ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه، والرهبان عبّاد النصارى جمع الراهب، وهو العابد، والترهّب التعبّد.
قوله (عليه السلام): (أَمَا والله مَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ أَنْفُسِهِمْ) يعني لم يأمروهم بفعل الصوم والصلاة والسجود وسائر العبادات لهم قصداً للتقرّب منهم.
قوله (عليه السلام): (ولَوْ دَعَوْهُمْ مَا أَجَابُوهُمْ) لعلمهم بأنّهم لا يستحقّون العبادة، وإنّما المستحقّ لها هو الله تعالى، وهذا تنبيه من الإمام على نفي العبادة بشكلها الواضح وبيان لنوع اخر من العبادة يخفى على الناس.
قوله (عليه السلام): (ولَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاماً وحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلَالاً)، وذلك إمّا خطأً لاعتمادهم في الأحكام الشرعية على آرائهم الفاسدة فافتوا بآرائهم، أو عمداً لاحترازهم عن نسبة الجهل إليهم فإذا لم يفتوا الناس وقالوا لا نعلم بالحكم - كما هو الواقع - تبين جهلهم، أو لميلهم إلى الدنيا ومنافعها فجعلوا ذلك وسيلة للوصول إليها أو لغير ذلك من الأغراض الفاسدة.
قوله (عليه السلام): (فَعَبَدُوهُمْ)، فسمى (عليه السلام) ذلك عبادة لواحد من سببين:
اما لكون عباداتهم مستندة إلى أقوالهم وآرائهم وليست مستندة إلى الله، أو للانقياد لهم والرجوع إليهم وقبول آرائهم وأقوالهم من دون الله تعالى.
قوله (عليه السلام): (مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)، إنّ تلك العبادة أو ذلك الانقياد عبادة لهم في الحقيقة، وذلك لأنّ مقصودهم عبادة واضع تلك الأحكام والآمر بها وتوهّموا بالتقليد وعدم التفكّر في أمر الدين أنّ واضعها والآمر بها هو الله تعالى، والحال أنّه غيره وهم الأحبار والرهبان، فرجعت عبادتهم إلى ذلك الغير وهم لا يشعرون.
وأمّا كون الانقياد لهم وقبول أوامرهم ونواهيهم عبادة لهم فلأنّ من أصغى إلى ناطق يؤدِّي من غير الله وتبعه على ذلك ورضي به فقد عبده، ومن ثمّ جعل الله تعالى متابعة الشيطان فيما يوسوس به عبادة له فقال: (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)[2]، وقال: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[3]، وقال خليل الرحمن: (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ)[4]، وفيه ذمّ وتقريع لمن اتّبع من لم يحكم بما أنزل الله وقلّد من لم يكن مؤيّداً بنور إلهي وموفّقاً بإلهام ربّاني.
وما تضمّنه هذا الحديث ونظيره من أنّ الطاعة لأهل المعاصي عبادة لهم جار على الحقيقة دون التجوّز، لأنّ العبادة ليست إلّا الطاعة والانقياد، ولذلك جعل الله تعالى الهوى إلهاً لمن أطاعه فقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)[5]، وإذا كان إطاعة الغير عبادة له كان أكثر الناس يعبدون غيره تعالى لأنّهم يطيعون النفس الأمّارة والقوى الشهوية والغضبية، وهي الأصنام التي هم عليها عاكفون، والأنداد التي هم لها عابدون، وهذا هو الشرك الخفي، فنسأل الله تعالى أن يعصمنا عنه ويطهّر نفوسنا منه.
2- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ الكاظم (عليه السلام): (يَا مُحَمَّدُ أَنْتُمْ أَشَدُّ تَقْلِيداً أَمِ الْمُرْجِئَةُ، قَالَ قُلْتُ قَلَّدْنَا وقَلَّدُوا فَقَالَ: لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي جَوَابٌ أَكْثَرُ مِنَ الْجَوَابِ الأَوَّلِ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): إِنَّ الْمُرْجِئَةَ نَصَبَتْ رَجُلاً لَمْ تَفْرِضْ طَاعَتَه وقَلَّدُوه وأَنْتُمْ نَصَبْتُمْ رَجُلاً وفَرَضْتُمْ طَاعَتَه ثُمَّ لَمْ تُقَلِّدُوه فَهُمْ أَشَدُّ مِنْكُمْ تَقْلِيداً).
قوله (عليه السلام) لمحمّد بن عبيدة: (يَا مُحَمَّدُ أَنْتُمْ أَشَدُّ تَقْلِيداً أَمِ الْمُرْجِئَةُ؟) التقليد: إتباع الغير في القول والفعل والأمر والنهي من القلادة، وهي التي في عنق الفتاة، والإرجاء التأخير، ويطلق المرجئة على فرقة مقابلة للشيعة لأنّهم يؤخّرون عليّاً (عليه السلام) عن مرتبته، وعلى فرقة مقابلة للوعيديّة وهم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سمّوا مرجئة لاعتقادهم أنّ الله تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخّره عنهم، وقيل: لتأخيرهم العمل بالسنّة، وإطلاق المرجئة على هاتين الفرقتين ممّا صرّح به الشهرستاني في الملل والنحل والمراد هنا الفرقة الأولى، ويمكن إرادة الفرقة الثانية أيضاً.
فقال محمد بن عبيدة: (قَلَّدْنَا وقَلَّدُوا) أي: إن كلاً منهما تقليد وليس هناك فرق بينهما إلا من ناحية اختلاف الشخص الذي يقلده كل منا.
قوله (عليه السلام): (لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْ هَذَا) ليس الغرض من السؤال هو الاستعلام لأنّه (عليه السلام) أعلم بذلك، بل الغرض منه التقرير والتوبيخ، أي حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه وذمّه عليه، ومن كان عارفاً بالقوانين العربية يعلم أنّه ليس الغرض هنا تقرير أصل الفعل - أعني التقليد - لأنّه ثابت محقّق مفروغ عنه، فما أجاب به السائل لم يقع السؤال عنه فلذلك قال (عليه السلام): لم أسألك عن هذا، بل الغرض هو السؤال عن أشدّيّة تقليد أحد الفريقين والتقرير عليها.
قوله (عليه السلام): (إِنَّ الْمُرْجِئَةَ نَصَبَتْ رَجُلاً) من عند أنفسهم لإمارتهم وإمامتهم.
قوله (عليه السلام): (لَمْ تَفْرِضْ طَاعَتَه) بأمر الله تعالى وأمر رسوله بحسب الواقع ولا باعتقادهم أيضاً، أي أنهم لم يدّعوا أن إمامهم هذا منصوب من قبل الله تعالى بل باتفاق منهم عليه، كما أن الواقع أنه ليس منصوباً من قبل الله تعالى.
قوله (عليه السلام): (وقَلَّدُوه) في جميع أفعاله وأقواله وأوامره ونواهيه المخالفة لحكم الله وحكم رسوله وكتابه.
وقوله (عليه السلام): (وأَنْتُمْ نَصَبْتُمْ رَجُلاً وفَرَضْتُمْ طَاعَتَه) على أنفسكم بأمر الله وأمر رسوله، وهو دليلكم على الخيرات.
وقوله (عليه السلام): (ثُمَّ لَمْ تُقَلِّدُوه) فيما يأمركم به وينهاكم عنه موافقاً للكتاب والسنّة ممّا يتمّ به نظامكم في الدنيا والآخرة، بل اتبعتم أهوائكم وتركتم الحق الذي هو عليه إلى غيره.
وقوله (عليه السلام): (فَهُمْ أَشَدُّ مِنْكُمْ تَقْلِيداً) فهم اتبعوه على ما يعلمون أنه ليس من الله، وانتم تركتم إتباع ما تعلمون أنه من الله، ولعلّ السرّ فيه أنّ لهم باعثاً من الشيطان يغويهم ويحثهم عليه بعد أن يزينه لهم في نفوسهم، ولأهل الحقّ زاجر من الشيطان يصدهم عنه، فلذلك يتثاقلون في المتابعة.
وفي هذا الحديث ترغيب في متابعته (عليه السلام) والرجوع إليه في الأحكام وغيرها ممّا هو سبب لمزيد الكرامة في دار المقامة وتوبيخ على الإعراض عنه والتثاقل في السماع منه.
مجلة بيوت المتقين العدد (16)