نجمٌ آخرٌ من نجومِ سماءِ العقيدةِ الخَالدةِ، ومنَ الذينَ ثَبتتْ أَقدامُهُم على دينِ اللهِ تَعالى وسُنّةِ نَبيّهِ(صلى الله عليه وآله) وولايةِ أَميرِ المؤمنينَ(عليه السلام)، ومنَ الّذينَ أَخلصُوا العَقيدةَ والعَمَلَ، فعاشَ حَميداً، ومَضَى مَقْتُولاً شَهيداً، إِنهُ مُسلمُ المُجَاشَعيُّ(رضي الله عنه).
يذكرُ أربابُ التأريخ: إنهُ كانَ يعيشُ في المدائنِ أيّامَ واليها حُذيفة بنِ اليَمَان، وبعدَ قتلِ عُثمانَ وبقاء حُذَيفة وَالياً عليها بأمرِ الإِمام عليٍّ(عليه السلام)، قَرَأ حذيفةُ على النَّاسِ رسالةَ الإِمامِ(عليه السلام)، وَدَعاهُم إِلى بيعتهِ مُتحدِّثاً عن عَظَمتهِ، ولمّا بايعَ النَّاسُ، طَلَبَ مسلمُ من حُذيفة أَنْ يُحدّثه بحقيقةِ ما كانَ قدْ جَرَى، ففعلَ فأَصبحَ مسلمُ مِنَ الموالينَ للإِمامِ(عليه السلام)، وَرَسخَ حُبُّ أَميرِ المؤمنينَ(عليه السلام) في قلبهِ حتّى قالَ(عليه السلام) فيهِ يَوْمَ الجَمَلِ: «إنَّ الفَتى مِمَّن حَشَى اللهُ قَلبَهُ نوراً وإيماناً، وهُوَ مَقتولُ ...» شرح نهج البلاغة: ج9، ص112.
وكلامُ أَميرُ المؤمنينَ(عليه السلام) أَعلاهُ كاشفٌ عن صَلابةِ عقيدةِ هذا الصَّحابيِّ الجَليلِ، وعن إِيمانهِ العَميقِ، وعن شدّةِ إخلاصهِ لأَولياءِ اللهِ تَعَالى، وتَتَجلّى تلكَ الصِّفاتُ أَكثرَ حِينما طَلبَ أَميرُ المؤمنينَ(عليه السلام) في حَرْبِ الجَمَلِ مِنْ أَصحابهِ مَنْ يَقْرَأُ على أَصحابِ الجَمَلِ قولَهُ تَعَالى: (وَإِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا) الحجرات: 9، فقامَ مسلمُ المُجَاشِعيُّ وكان عَلَيهِ قَباءٌ أبيَضُ، فَقالَ لَهُ: أنَا آخُذُهُ يا أميرَ المُؤمِنينَ، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ(عليه السلام): يا فَتى إنَّ يَدَكَ اليُمنى تُقطَعُ، فَتَأخُذُهُ بِاليُسرى فَتُقطَعُ، ثُمَّ تُضرَبُ عَلَيهِ بِالسَّيفِ حَتّى تُقتَلَ، فَقالَ الفَتى: لا صَبرَ لي عَلى ذلِكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ، قالَ: فَنادى عَلِيٌّ ثانِيَةً، وَالمُصحَفُ في يَدِهِ، فَقامَ إلَيهِ ذلِكَ الفَتى وقالَ: أنَا آخُذُهُ يا أميرَ المُؤمِنينَ، قالَ: فَأَعادَ عَلَيهِ عَلِيٌّ(عليه السلام) مَقالَتَهُ الاُولى، فَقالَ الفَتى: لا عَلَيكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ، فَهذا قَليلٌ في ذاتِ اللهِ، ثُمَّ أَخَذَ الفَتَى المُصحَفَ وَانطَلَقَ بِهِ إلَيهِم، فَقالَ: يا هؤُلاءِ، هذا كِتابُ اللهِ بَينَنا وبَينَكُم، قالَ: فَضَرَبَ رَجُلٌ مِن أَصْحَابِ الجَمَلِ يَدَهُ اليُمنى فَقَطَعَها، فَأَخَذَ المُصحَفَ بِشِمالِهِ فَقُطِعَت شِمالُهُ، فَاحتَضَنَ المُصحَفَ بِصَدرِهِ فَضُرِبَ عَلَيهِ حَتّى قُتِلَ ـ رَحمَةُ اللهُ عَلَيهِ. (المناقب للخوارزمي: ص186، ح 223)، (تاريخ الطبري: ج 4، ص511).
وَهُوَ الَّذي قَالتْ فيهِ أُمُّهُ: يَا رَبِّ إنّ مُسـْلِمَاً أَتـاهـمْ بمُحْكَمِ التّنزيل إذْ دَعَـاهُمْ
يَتْلوُ كِتَابَ اللهِ لا يَخْشَاهُمْ فَرَمّلوهُ.. رُمِّلـتْ لَحَــاهُـمْ
فالسَّلامُ عليهِ يَوْمَ وُلِدَ، وَيَوْمَ استُشْهِدَ، وَيَوْمَ يُبْعثُ حَيّاً.
المصدر: مجلة اليقين العدد (39)، الصفحة (11).