وصف الله تعالى القرآن الكريم أنه كتاب هداية وبيان للناس، ومن مصاديق الهداية وبيان طريق الرشاد والسداد توجيه الناس إلى نعمة التوبة والرجوع إلى الله تعالى، ذلك الباب الواسع الذي فتحه الله تعالى للمذنبين الخاطئين (إلّا من تاب)، وانتهج القرآن الكريم أسلوبين في ترغيب الناس على ولوج هذا الباب الرحماني:
الأسلوب الأول: أسلوب ذكر الصفة، فإنه يذكر صفة الذين أدركتهم الرحمة الإلهية وقصدوا باب الرجوع والإنابة، وهو أسلوب أشبه بالكناية، لترغب النفس أكثر وأسرع في الرجوع عن الخطايا والمخالفات، وكما يقول البلاغيون الكناية أبلغ من التصريح، من ذلك قول الله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[1].
وقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).[2]
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّـهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).[3]
وقوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذينَ عَمِلُوا السّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابوا مِن بَعدِ ذلِكَ وَأَصلَحوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِها لَغَفورٌ رَحيمٌ).[4]
وقوله تعالى: ((وَإِذا جاءَكَ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِآياتِنا فَقُل سَلامٌ عَلَيكُم كَتَبَ رَبُّكُم عَلى نَفسِهِ الرَّحمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُم سوءًا بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِن بَعدِهِ وَأَصلَحَ فَأَنَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ).[5]
الأسلوب الثاني: التصريح بطلب التوبة من العباد، وذلك بمقتضى العبودية وحق الطاعة فإن العبد يجب عليه امتثال الأوامر وتجنب النواهي التي تصدر من الخالق المعبود جل وعلا، فكيف إذا كان الأمر في مصلحة العبد ويؤجر عليه جزيل الأجر، دون حاجة المولى إلى الطاعة والامتثال فالله تعالى لا يريد من العبد مهما غرق في بحر النعم والعطايا جزاءً ولا شكوراً، وإنما يحتاج إلى ذلك العبد الضعيف الذي لا يملك لنفسه شيئاً إلّا بإذن الله ومشيئته.
لذلك ذكر القرآن الكريم طلب التوبة محفوفاً بآثارها من المغفرة والرحمة؛ حتى يصل بالعبد إلى الرغبة الحقة والخالصة في أن يتوب ويرتع في بساتين الرضا والقبول الإلهي، من ذلك قوله تعالى: ((وَأَنِ استَغفِروا رَبَّكُم ثُمَّ توبوا إِلَيهِ يُمَتِّعكُم مَتاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذي فَضلٍ فَضلَهُ).[6]
وقوله تعالى: (وَاستَغفِروا رَبَّكُم ثُمَّ توبوا إِلَيهِ إِنَّ رَبّي رَحيمٌ وَدودٌ).[7]
وقوله تعالى: (... وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[8] .
التوبة النصوح
ذكر القرآن الكريم في سورة التحريم نوع من التوبة وصفها بال(نصوح) وذكر لها آثار يطمع كل مؤمن ومسلم أن ينال منها رزقاً، وهي قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّـهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).[9]
فمن آثار هذه التوبة تكفير السيئات، ودخول الجنة، ورفقة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولهم نور يوم القيامة، فما هي التوبة النصوح؟
أما أخبار المعصومين الأطهار (عليهم السلام)، فقد وردت أخبار توضح معنى التوبة النصوح، فعن أبي الحسن الأخير (عليه السلام) انه سئل عن التوبة النصوح ما هي؟ فكتب (عليه السلام): (أن يكون الباطن كالظاهر وأفضل من ذلك).[10]
وعن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: (ان يتوب التائب ثم لا يرجع كما لا يعود اللبن في الضرع).[11]
وقال صاحب المثل: ومن هذه التفاسير القول بأن التوبة النصوح يجب أن تتوفر فيها أربعة شروط: الندم الداخلي، الاستغفار باللسان، ترك الذنب، والتصميم على الاجتناب في المستقبل.
وقال البعض الآخر بأنها أي التوبة النصوح ذات شروط ثلاثة (الخوف من عدم قبولها، والأمل بقبولها، والاستمرار على طاعة الله).
أو أن التوبة النصوح التي تجعل الذنوب دائماً أمام أعين أصحابها ليشعر الإنسان بالخجل منها.
أو أنها تعني إرجاع المظالم والحقوق إلى أصحابها وطلب التحليل وبراءة الذمة من المظلومين والمداومة على طاعة الله.
أو هي التي تشمل على أمور ثلاثة: قلة الأكل، قلة القول، قلة النوم.
أو التوبة النصوح هي التي يرافقها بكاء العين واشمئزاز القلب من الذنوب وما إلى ذلك من فروع التوبة الواقعية وهي التوبة الخالصة التامة الكاملة[12].
ذكر الباحثون في مركز الأبحاث العقائدية (الموقع الإلكتروني) عن تفسير التوبة النصوح أقوال:
منها: أن النصوح ما كانت خالصة لوجه الله سبحانه من قولهم: (عسل نصوح) إذا كان خالصاً من الشمع، بأن يندم على الذنوب لقبحها وكونها خلاف رضى الله تعالى لا لخوف النار مثلاً.
ومنها: أن المراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها لظهور آثارها الجميلة في صاحبها أو ينصح صاحبها فيقلع عن الذنوب ثم لا يعود إليها أبداً.
ومنها: أن النصوح من النصاحة وهي الخياطة لأنها تنصح من الدين ما مزقته الذنوب أو يجمع بين التائب وبين أوليائه وأحبائه كما تجمع الخياطة بين قطع الثوب.
ومنها: أن النصوح وصف للتائب وإسناده إلى التوبة من قبيل الإسناد المجازي أي توبة تنصحون بها أنفسكم بأن تأتوا بها على أكمل ما ينبغي أن تكون عليه حتى تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب بالكلية في النفس[13].
[1] البقرة، آية: 160.
[2] آل عمران، آية: 89-90.
[3] سورة آل عمران، آية: 135.
[4] النحل، آية: 119.
[5] الأنعام، آية: 54.
[6] هود، آية: 3.
[7] هود، آية: 90.
[8] النور، آية: 31.
[9] التحريم، آية: 8.
[10] وسائل الشيعة، الحرّ العاملي: ج11، ص361.
[11] مجمع البيان، الطبرسي: ج 10، ص 62.
[12] الأمثل، مكارم الشيرازي: ج18 ص407.
[13] ينظر بحار الأنوار ج6 ص17.