قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ...الآية)[1].
ميزة "عباد الرحمن" السادسة التي وردت في هذه الآيات من سورة الفرقان هي التوحيد الخالص الذي يبعدهم عن كل أنواع الشرك والوثنية والتعددية في العبادة، فيقول تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ.....الآية)[2].
فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية والاجتماعية، وانقشعت عن سماء أفكارهم وأرواحهم ظلمات الشرك[3].
فالوثنية لا تجيز دعاءه تعالى وعبادته أصلا لا وحده ولا مع آلهتهم وإنما توجب دعاء آلهتهم وعبادتهم ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده،
ويذكر السيد الطباطبائي في تفسيره أن المراد بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ) ثلاثة وجوه وهي:
1- إما التلويح إلى أنه تعالى إله مدعوّ بالفطرة على كل حال فدعاء غيره دعاء لإله آخر معه وإن لم يذكر الله.
2- أو أنه تعالى ثابت في نفسه سواء دعي غيره أم لا ، فالمراد بدعاء غيره دعاء إله آخر مع وجوده ، وبعبارة أخرى تعديه إلى غيره.
3- أو إشارة إلى ما كان يفعله جهلة مشركي العرب، فإنهم كانوا يرون أن دعاء آلهتهم إنما ينفعهم في البر وأما البحر فإنه لله لا يشاركه فيه أحد، فالمراد دعاؤه تعالى في مورد كما عند شدائد البحر من طوفان ونحوه ودعاء غيره معه في مورد وهو البر.
ويرى السيد (قدس سره) أن أحسن الوجوه هو الثاني[4].
إنّ تعريف الشرك هو: أن يجعل الإنسان لله ندّاً، سواء في الذات أم في الصفات أم في الأفعال، وكذلك مَن يخضع لمن يعتقد فيه الإلوهية أو الربوبية أو الاستقلالية في التأثير والتدبير حتّى يعدّ خضوعه عبادة، ولا يفرق أن يحصل الخضوع بسجود أو صلاة أو نذر أو ذبح أو دعاء أو استغاثة...
وجريمة الشرك هي من أعظم الجرائم والذنوب، وصاحبها مخلّد في النار أبد الآباد، ولا يخرج من النار أبدا، كما قال تعالى في سورة التوبة: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ)[5]، وقال سبحانه: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[6]، وقال عز وجل: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[7]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
روي في (الكافي) للشيخ الكليني: (أكبر الكبائر الشرك بالله)[8]، وقد عدّ الأئمة (عليهم السلام) الشرك ظلما، فعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حديث طويل...إلى أن قال: (فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك) راجع نفس المصدر.
إن النظر إلى الأسباب باعتبار أنها علل غير مستقلة، والتوسل بها عين التوحيد، وباعتبار استقلالها في التأثير والطلب منها عين الشرك، ولا فرق في ذلك بين الأسباب الطبيعية وغير الطبيعية، غير أن الوهابيين جعلوا التوسل بغير الطبيعية من العلل توسلا ممزوجا بالشرك، والحال أن مَن جعل الشفاء في الأدوية الطبيعية أو في العسل هو الذي منح النبي عيسى (عليه السلام) قدرة يمكنه أن يبرئ المرضى بإذنه سبحانه، إذ أي فرق بين الاعتقاد بأن الله وهب الإشراق للشمس والإحراق للنار وجعل الشفاء في العسل، وبين إقداره وليّه مثل النبي عيسى(عليه السلام) وغيره على البرء، أو إعطاءه للأرواح المقدسة من أوليائه قدرة على التصرف في الكون وإغاثة الملهوف بإذنه سبحانه، ومع الاعتقاد بأن الله تعالى هو الذي يمنح الأثر فكيف يُعدّ اعتقاده هذا شركا! فإنه لا ينافي التوحيد ولا يضاده بل يلائمه كمال الملائمة.
إن التوسل بالأرواح المقدسة والاستمداد بالنفوس الطاهرة الخالدة عند ربها نوع من التمسك بالأسباب وقد قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)[9].
وليست الوسيلة منحصرة في العمل بالفرائض والتجنب عن المحرمات، بل هي أوسع من ذلك فتوسل ولد يعقوب بأبيهم كان ابتغاء للوسيلة أيضاً.
وبكلام آخر: أن الشرك عبارة عن الاعتقاد باستقلال شيء في التأثير، بمعنى أن يكون أثره مستندا إليه لا إلى خالقه وبارئه والمفروض عدم الاعتقاد باستقلال شيء منها في التأثير، ومع ذلك كيف يكون شركا!
التوسل بالأولياء الأموات:
يرى الوهابية أن التوسل بالأنبياء والأولياء جائز في حال حياتهم دون مماتهم، والحال أنه لا دخالة لحياة المستغاث به ومماته في تحديد الشرك أو التوحيد مطلقاً، لأن الاستمداد والاستغاثة بالغير مع الاعتقاد باستقلاله في القدرة والتأثير، وأصالته في إغاثة المستغيث يوجب الشرك، وأما مع عدم الاعتقاد بذلك بل الاعتقاد بأن قدرة الغير وتأثيره بإذن الله تعالى فهو عين التوحيد واعترافا بعبوديته ويعد التوجه به تكريما واحتراما له، من دون فرق في ذلك بين حياة الغير ومماته.
إن الوهابيين يسلّمون أن الله سبحانه أمر العُصاة بأن يذهبوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ويطلبوا منه أن يستغفر لهم، أخذا بظاهر قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً)[10]، كما يسلّمون أن أولاد يعقوب طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم كما جاء في قوله تعالى: (قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)[11]، غير أنهم يقولون: إن هذين الموردين إنما ينطبقان مع أصول التوحيد لأجل حياة المستغاث، وأما إذا سئل ذلك في مماته عد شركا.
غير أن القارئ النبيه عليم بأن حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) ومماته لا يغيّران ماهية العمل، إذ لو كان التوسل شركا حقيقة للزم أن يكون كذلك في الحالتين من دون فرق بين حالتي الحياة والممات.
ومن هذا يتضح ضعف ما أفاده ابن تيمية إذ قال:
" كل من غلا في نبي، أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني... فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب، وإلا قتل"[12].
شبهة وجواب:
ولابن تيمية كلام آخر في هذا المجال حيث يقول: " والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، أو هؤلاء شفعاؤنا "[13].
إن قياس الاستغاثة بأولياء الله بما كان يقوم به المسيحيون والوثنيون ابتعاد عن الموضوعية، لأن المسيحيين كانوا يعتقدون، في حق المسيح بنوع من الألوهية، وكان الوثنيون يعتقدون بأن الأوثان تملك بنفسها مقام الشفاعة، بل كان بعضهم - على ما نقل عن ابن هشام - يعتقد بأنها متصرفة في الكون، ومرسلة الأمطار - على الأقل - ولأجل هذا الاعتقاد كان طلبهم واستغاثتهم بالمسيح وبتلك الأوثان عبادة لها.
فعلى هذا إذا كانت الاستغاثة مقرونة بالاعتقاد بإلوهية المستغاث كانت شركا حتما، وأما إذا كانت الاستغاثة - بالحي أو الميت - خالية وعارية عن هذا القيد لم تكن شركا ولا عبادة بل استغاثة بعبد نعلم أنه لا يقوم بشيء إلا بإذنه سبحانه، لاسيما إذا كان هذا المستغاث به محبوبا عند الله تعالى مقربا لديه، بل ندب الله سبحانه إلى الاستغاثة به إليه، كما ورد عند من يقول بذلك.
سؤال وجواب:
يسأل البعض عن كلمة (عليّ) عندما يقولها الشيعة، فهل هي تعني صفة العلي لله عز وجل أم الإمام علي (عليه السلام).
والجواب: هو أن الاستغاثة بالنبي (صلى الله عليه وآله) وبإخوانه النبيين والمرسلين وبالأوصياء والصالحين، هي عبارة عن طلب الشفاعة منهم لقضاء الحوائج ودفع النوائب وتفريج الكروب، ولا ريب أن كل من يناديهم من المؤمنين، فهو عالم أنه لا يعبد إلّا الله، ولا يفعل ما يريد ويمنح ما يطلب إلاّ الله، وليس هؤلاء إلاّ شفعاء فقط، وقد أرشدنا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) للاستغاثة بعباد الله الصالحين من الأنبياء والأوصياء بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[14]، وقد ورد في بعض الأخبار أن المقصود من الوسيلة هو أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فعندما تنادي الشيعة بكلمة (يا علي) في الواقع تتوسل به (عليه السلام) إلى الله تعالى لما يحمله من المنزلة والمقام الرفيع والقرب من المولى عزّ وجل.
مجلة بيوت المتقين العدد (19)