بسم الله الرحمن الرحيم
حينما نعمد إلى دراسة شخصية تأريخية - أياً كانت - تطالعنا صور ومشاهد، تضفي علينا مزيداً من الوضوح في البحث عن الجوانب الهامّة المحيطة بها. وأول شيء يواجهنا في هذا المضمار، هو «السيرة» ولكن لا فائدة ولا جدوى منها بدون دراسة وتحليل. إذ أنها وحدها هيكل شاخص لا روح فيه، فهي لا تتجاوز أن تكون كلمات مرسومة على الورق، بمستطاع كل قارئ أن يقرأها، ويتندَّر بها أمام أقرانه وزملائه، كأي قصة تأريخية مثيرة، من دون أن تترك في نفس القارئ أو السامع أي أثر نافع مفيد. سوى انفعالات نفسية آنيَّة. ولكن، حينما يصل الحديث إلى عظماء الصحابة، واستجلاء سيرتهم، نجد أنفسنا أمام مدرسة مثالية، غنية بالعطائين، الفكري والروحي، ومليئة بالعظات والعبر. ونلمس في سلوكهم وأفعالهم، مع أنفسهم ومحيطهم، تجسيداً كاملاً للمبدأ الذي دعوا إليه وكافحوا من أجله. كما نجد أن كلمتهم، كانت الكلمة المسؤولة، وحياتهم كانت كلها مواقف خالدة خلود الروح، وباقية بقاء الإنسان.
ومن أحد هذه الرموز الخالدة حذيفة بن اليمان.
اسمه ونسبه:
حذيفة بن الحُسَيل (اليمان) بن جابر العبسي.
ولادته:
لم نعثر على تاريخ ولادته.
جوانب من حياته:
كان حذيفة من وجهاء الصحابة وأعيانهم، وكان من نجباء وكبار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصاحب سرّ النبي، وأعلم الناس بالمنافقين.
شهد أُحداً وما بعدها من المشاهد، وكان أحد الذين ثبتوا على العقيدة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقد وقف إلى جانب الإمام علي (عليه السلام) بخطىً ثابتة، وكان ممَّن شهد جنازة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وصلَّى على جثمانها الطاهر.
وليَ المدائن في عهد عمر وعثمان، وكان مريضاً في ابتداء خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، مع هذا كله لم يُطِق السكوت عن مناقبه وفضائله، فصعد المنبر بجسمه العليل، وأثنى عليه، وذكره بقوله: فو الله إنه لعلى الحق آخراً وأوّلاً، وقوله: إنه لخير من مضى بعد نبيِّكم.
وأخذ له البيعة، وهو نفسه بايعه أيضًا، وأوصى أولاده مؤكِّدًا ألا يقصِّروا في اتِّباعه.
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (حذيفة بن اليمان من أصفياء الرحمن، وأبصركم بالحلال والحرام..)[1].
وقد آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينه وبين عمار بن ياسر، ويلقب حذيفة بحافظ سر الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث أن الرسول كان قد أسر له بأسماء كافة المنافقين المحيطين به وعلَّمَهُ بعض المغيبات.
كان عمر بن الخطاب عندما يريد أن يصلي على أحد أموات المسلمين يسأل عن حذيفة، هل هو من ضمن الحاضرين للصلاة؟ وذلك خوفاً منه بالصلاة على أحد المنافقين لتحريم الصلاة على المنافقين كما في الآية (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)[2]، [3].
وكان حذيفة يعلم ذلك بإخبار النبي (صلى الله عليه وآله) إياه. وقد ورد في مصادر القوم، منها: فتح الباري لأبن حجر: ج8، ص487. والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج1، ص200. أن عمر بن الخطاب يقول له: يا حذيفة هل أنا منهم؟!
قصته في معركة أُحد:
وفي معركة أُحُد شاهد أباه يُقْتَلُ خطأً بأيدي المسلمين، فكان يرى السيوف تنوشه فصاح بضاربيه: أبي، أبي، إنه أبي، ولكن أمرَ الله قد نفذ، وحين علم المسلمون اعتراهم الحزن والوجوم، لكنه نظر إليهم إشفاقاً وقال يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ثم انطلق بسيفه يؤدي واجبه في المعركة، وبعد انتهاء المعركة علم الرسول بذلك فأمر بالدية عن والد حذيفة حُسَيل بن جابر لكن حذيفة تصدق بها على المسلمين.
غزواته مع الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته:
شهد حذيفة كل غزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله) عدا بدر لأنه كان بسفر خارج المدينة، وبعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) شارك في فتوح العراق والشام، وفي اليرموك سنة 13هــ، وفتح الجزيرة الفراتية ونصيبين سنة 17هـ، كما شارك في فتوح فارس ونهاوند، وفي معركة نهاوند حيث احتشد الفرس في مئةٍ وخمسين ألف مقاتل، وعندما استشهد قائد جيش المسلمين النعمان بن مُقرِن وقبل أن تسقط الراية كان حذيفة يرفعها عالياً، وأوصى بأن لا يذاع نبأ استشهاد النعمان حتى تنجلي المعركة، ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريماً له، ثم هجم على الفرس صائحاً: (الله أكبر صدق وعده ونصر جنده)، ثم نادى المسلمين قائلاً: (يا أتباع محمد، هاهي ذي جنان الله تتهيأ لإستقبالكم، فلا تطيلوا عليها الإنتظار) وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس، وكان فتح همدان والري على يده وشهد فتح الجزيرة ونصيبين.
حديث حذيفة بعد غزوة تبوك سنة 9هــ:
كانت غزوة تبوك بعد انتصار المسلمين على المشركين العرب بعد فتح مكة وهوازن وسيطرة الدولة الإسلامية على كامل جزيرة العرب، فطمع المنافقون الموجودون في جيش المسلمين بدولة الإسلام لأن مُلكَ المسلمين أصبح عظيما ودولتهم واسعة، فسعوا لقتل النبي (صلى الله عليه وآله) للسيطرة على خلافته، رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قافلاً من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله جماعة من أصحابه فتآمروا عليه أن يطرحوه في عقبةٍ في الطريق - العقبة هي الجبل الطويل يعترض الطريق -، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، وأَخبَر جبرئيل رسولَ الله بخبرهم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (خذوا بطنَ الوادي فإنه أوسع لكم)، وأخذ هو العقبة مع إثنين فقط ممن يثق بهم من الصحابة وهما عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وأخذ الناس بطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله(صلى الله عليه وآله)، فلما سمعوا بأمر الرسول استعدوا وتلثموا وهمّوا بأمرٍ عظيم، وأمر رسول الله حذيفة بن اليمان بأن يأخذ بزمام ناقته - يقودها - وأمر عماراً بأن يسوقها، فمشيا معه مشياً، يقول حذيفة: فبينا هم يسيرون ثارَ القومُ من ورائنا وتقدموا إلى الناقة ليدفعوها، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمر حذيفة وعمار أن يردوهم ويضربوا وجوه رواحلهم بالسيف، فلما أبصرا غضب رسول الله رجعا ومع حذيفة محجن وعمار سيف، فاستقبلا القوم وهم متلثمون ضرباً على وجوه رواحلهم، فرعبهم الله عز وجل وظنوا أن مكرهم قد ظهر فهربوا حتى خالطوا الناس، ثم أن حذيفة وعمار أدركا رسول الله وأسرعوا السير حتى استوى بأعلاها، فقال النبي لحذيفة: هل عرفت من هؤلاء الرهط؟ قال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان وكانت ظلمة الليل وهم متلثمون - وقد عودنا الرواة من العامة على وضع كلمتي فلان وفلان بدل المقدسين عندهم -، فقال (صلى الله عليه وآله) هل علمتم ما أرادوا؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها إلى الوادي، قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فتضرب أعناقهم؟ قال: إن الله أمرني أن أعرض عنهم، وأكره أن يقول الناس إنه دعا أناساً من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم، فلما ظهر على عدوه أقبل عليهم فقتلهم، ولكن دعهم يا حذيفة فإن الله لهم بالمرصاد وسيمهلهم قليلاً ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ، فقلت ومن هؤلاء المنافقون يا رسول الله أمن المهاجرين أم من الأنصار؟ فقال له رسول الله إن الله أخبرني بأسمائهم وسماهم لي رجلاً رجلاً...)، ولقد خلَّدَ القرآن حادثة الاغتيال تلك في سورة التوبة حيث تقول الآية: >يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ...<سورة التوبة: 74، وفسر كثير من مفسرين أهل السنة ومنهم البيهقي في دلائل النبوة والسيوطي في الدر المنثور قوله تعالى: >وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا<
بأن المراد منها الأشخاص الذين قصدوا اغتيال النبي(صلى الله عليه وآله) بعد عودته من معركة تبوك، فقد قال لقد هموا بقتل النبي ولكنهم لم ينالوا ذلك[4].
حذيفة مع الإمام علي (عليه السلام) بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله):
اشتهر حذيفة بتشيعه لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فقد كان أحد الصحابة الذين شهدوا بيعة الغدير وبايع الإمام علي (عليه السلام)، وهو أحد الأركان الأربعة الذين ثبتوا مع علي واستعدوا للموت في مواجهة مؤامرة السقيفة، وروى عنه في الكافي: 328 أن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب بعد السقيفة خطبة بليغة جاء فيها: (أيتها الأمة التي خُدعت فانخدعت، وعَرَفَت خديعة من خدعها فأصرت على ما عرفت، واتَّبعت أهواءها، وضربت في عشواء غوايتها، وقد استبان لها الحق فصدت عنه، والطريق الواضح فتنكبته، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لقد علمتم أني صاحبكم والذي به أُمرتُم، وأني عالمكم والذي بعلمه نجاتكم، ووصي نبيكم وخيرة ربكم ولسان نوركم، والعالم بما يصلحكم، فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وُعدتم، وما نزل بالأمم قبلكم، وسيسألكم الله عز وجل عن أئمتكم، معهم تحشرون وإلى الله عز وجل غداً تصيرون)، قال حذيفة: ثم خرج علي من المسجد فمر بِصِيرة فيها نحو من ثلاثين شاة، فقال: (والله لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله (صلى الله عليه وآله) بعدد هذه الشياه لأزلتُ إبنَ آكلة الذبان عن ملكه) قال حذيفة: فلما أمسى بايعه ثلاثُ مئة وستون رجلاً على الموت، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): (أغدوا بنا إلى أحجار الزيت مُحَلِّقِين)، وحَلَقَ أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، فما وافى من القوم محلقاً إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة وعمار، وجاء سلمان في آخر القوم، فرفع الإمام علي (عليه السلام) يده إلى السماء وقال: (اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعف بنو إسرائيل هارون، اللهم فإنك تعلم ما نخفي وما نعلن ومايخفى عليك شيءٌ في الأرض ولا في السماء، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين)، كما كان حذيفةُ أحدَ الحاضرين في تشييع السيّدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) والصلاة عليها ودفنها ليلاً، لهذا عدَّه الإمام الصادق والرضا (عليهما السلام) من المؤمنين الذين لم يغيرّوا، ولم يبدّلوا بعد نبيّهم، وتجب ولايتهم[5].
وفاته:
توفّي حذيفة (رضي الله عنه) سنة 36هـ بالمدائن مسموماً عن عُمُرٍ لم يتجاوز الستين، ودفن فيها بجوار سلمان الفارسي (رضي الله عنه).
اغتيل حذيفة بيد أبي موسى الأشعري: كان أبو موسى الأشعري أحد المنافقين المشاركين في محاولة قتل رسول الله(صلى الله عليه وآله) في العقبة، وقد صرح عمّار بذلك في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما لوح حذيفة بن اليمان بذلك أيضاً أثناء حصار عثمان في داره وقتله، فخاف الأشعري من انتشار هذا الخبر بين المسلمين خاصّة بعد مقتل عثمان وذهاب التسلط الحكومي الأموي عن الناس، وكان الأشعري والياً على الكوفة قد تم تعيينه من قبل عثمان سابقاً والمدائن قريبة منه، فأقدم الأشعري على سم حذيفة بن اليمان في المدائن لطمس الأسرار النبوية، فبقي حذيفة عليلاً بعد سُمِّهِ أربعين يوماً ومات فدفن في المدائن قرب قبر سلمان الفارسي سنة 36هـ وقبرهم يزار، لقد مات حذيفة بن اليمان بعد أربعين يوماً من تولي الإمام علي(عليه السلام) إمرة المسلمين، وهكذا اغتال رجال الحزب القرشي خيرة المخلصين للإمام علي لإضعاف خلافته(عليه السلام).