لو خاصمنا أحد في صحّة الدين الاسلامي، نستطيع أن نخصمه بإثبات المعجزة الخالدة له، وهي القرآن الكريم على ما تقدّم من وجه إعجازه. وكذلك هو طريقنا لإقناع نفوسنا عند ابتداء الشك والتساؤل اللَّذين لا بدَّ أن يمرا على الانسان الحر في تفكيره عند تكوين عقيدته أو تثبيتها.
أمّا الشرائع السابقة، كاليهودية والنصرانية، فنحن قبل التصديق بالقرآن الكريم، أو عند تجريد أنفسنا عن العقيدة الاسلامية، لا حجّة لنا لاِقناع نفوسنا بصحتها، ولا لإقناع المشكّك المتسائل؛ إذ لا معجزة باقية لها كالكتاب العزيز، وما ينقله أتباعها من الخوارق والمعاجز للاَنبياء السابقين فهم متّهمون في نقلهم لها أو حكمهم عليها، وليس في الكتب الموجودة بين أيدينا المنسوبة إلى الاَنبياء كالتوراة والانجيل ما يصلح أن يكون معجزة خالدة تصح أن تكون حجّة قاطعة، ودليلاً مقنعاً في نفسها قبل تصديق الاسلام لها.
وإنّما صحَّ لنا - نحن المسلمين - أن نقرَّ ونصدّق بنبوة أهل الشرائع السابقة، فلاَنّا بعد تصديقنا بالدين الاسلامي كان علينا أن نصدّق بكل ما جاء به وصدّقه، ومن جملة ما جاء به وصدّقه نبوّة جملة من الاَنبياء السابقين على نحو ما مرّ ذكره[1].
وعلى هذا فالمسلم في غنى عن البحث والفحص عن صحّة الشريعة النصرانية وما قبلها من الشرائع السابقة بعد اعتناقه الاسلام لاَنّ التصديق به تصديق بها، والايمان به إيمان بالرسل السابقين والاَنبياء المتقدّمين، فلا يجب على المسلم أن يبحث عنها ويفحص عن صدق معجزات أنبيائها؛ لاَنّ المفروض أنّه مسلم قد آمن بها بإيمانه بالاسلام، وكفى.
نعم، لو بحث الشخص عن صحّة الدين الاسلامي فلم تثبت له صحّته، وجب عليه عقلاً - بمقتضىوجوب المعرفة والنظر - أن يبحث عن صحّة دين النصرانية؛ لاَنّه هو آخر الاَديان السابقة على الاسلام، فإن فحص ولم يحصل له اليقين به أيضاً وجب عليه أن ينتقل فيفحص عن آخر الاَديان السابقة عليه، وهو دين اليهودية حسب الفرض... وهكذا ينتقل في الفحص حتى يتم له اليقين بصحّة دين من الاَديان، أو يرفضها جميعاً.
وعلى العكس فيمن نشأ على اليهودية أو النصرانية؛ فإنّ اليهودي لا يغنيه اعتقاده بدينه عن البحث عن صحّة النصرانية والدين الاسلامي، بل يجب عليه النظر والمعرفة - بمقتضى حكم العقل - وكذلك النصراني، ليس له أن يكتفي بإيمانه بالمسيح عليهالسلام، بل يجب أن يبحث ويفحص عن الاسلام وصحّته، ولا يعذر في القناعة بدينه من دون بحث وفحص؛ لاَنّ اليهودية وكذا النصرانية لا تنفي وجود شريعة لاحقة لها ناسخة لاَحكامها، ولم يقل موسى ولا المسيح عليهماالسلام أنه لا نبي بعدي[2].
فكيف يجوز لهؤلاء النصارى واليهود أن يطمئنّوا إلى عقيدتهم، ويركنوا إلى دينهم قبل أن يفحصوا عن صحّة الشريعة اللاحقة لشريعتهم كالشريعة النصرانية بالنسبة إلى اليهود، والشريعة الاسلامية بالنسبة إلى اليهود والنصارى، بل يجب - بحسب فطرة العقول - أن يفحصوا عن صحة هذه الدعوى اللاحقة، فإن ثبتت لهم صحتها انتقلوا في دينهم إليها، وإلاّ صحّ لهم - في شريعة العقل - حينئذٍ البقاء على دينهم القديم والركون إليه.
أمّا المسلم - كما قلنا - فإنّه إذا اعتقد بالاسلام لا يجب عليه الفحص؛ لا عن الاَديان السابقة على دينه، ولا عن اللاحقة التي تُدَّعى؛ أمّا السابقة فلاَنّ المفروض أنّه مصدِّق بها، فلماذا يطلب الدليل عليها؟ وإنّما فقط قد حكم له بأنّها منسوخة بشريعته الاسلامية، فلا يجب عليه العمل بأحكامها ولا بكتبها.
وأمّا اللاحقة، فلاَنّ نبي الاسلام محمداً صلىاللهعليهوآله قال: «لا نبيّ بعدي»[3]ِ وهو الصادق الاَمين كما هو المفروض (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحيٌ يُوحى)[4] فلماذا يطلب الدليل على صحّة دعوى النبوة المتأخرة إن ادعاها مدع؟
نعم، على المسلم - بعد تباعد الزمان عن صاحب الرسالة، واختلاف المذاهب والآراء، وتشعُّب الفرق والنحل - أن يسلك الطريق الذي يثق فيه أنّه يوصله إلى معرفة الاَحكام المنزَّلة على محمد صاحب الرسالة؛ لاَنّ المسلم مكلَّف بالعمل بجميع الاَحكام المنزَّلة في الشريعة كما اُنزلت.
ولكن كيف يعرف أنّها الاَحكام المنزَّلة كما اُنزلت، والمسلمون مختلفون، والطوائف متفرِّقة، فلا الصلاة واحدة، ولا العبادات متّفقة، ولا الاَعمال في جميع المعاملات على وتيرة واحدة!... فماذا يصنع؟ بأيّة طريقة من الصلاة - إذن - يصلّي؟ وبأيّة شاكلة من الآراء يعمل في عباداته ومعاملاته كالنكاح، والطلاق، والميراث، والبيع، والشراء، وإقامة الحدود والديات، وما إلى ذلك؟
ولا يجوز له أن يقلِّد الآباء، ويستكين إلى ما عليه أهله وأصحابه، بل لا بدَّ ان يتيقّن بينه وبين نفسه، وبينه وبين الله تعالى؛ فإنه لا مجاملة هنا ولا مداهنة، ولا تحيّز ولا تعصُّب.
نعم، لا بدَّ أن يتيقّن بأنّه قد اخذ بأمثل الطرق التي يعتقد فيها بفراغ ذمته بينه وبين الله من التكاليف المفروضة عليه منه تعالى، ويعتقد أنّه لا عقاب عليه ولا عتاب منه تعالى بأتّباعها وأخذ الاَحكام منها. ولا يجوز أن تأخذه في الله لومة لائم (أَيَحسَبُ الاِنسنُ أَن يُترَكَ سُدىً)[5] (بل الاِنسنُ على نَفسِهِ بَصِيرَةٌ)[6] (إنَّ هَذِهِ تَذكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبيلاً)[7].
وأوّل ما يقع التساؤل فيما بينه وبين نفسه أنّه هل يأخذ بطريقة آل البيت أو يأخذ بطريقة غيرهم؟ وإذا اخذ بطريقة آل البيت، فهل الطريقة الصحيحة طريقة الامامية الاثني عشرية أو طريقة من سواهم من الفِرق الاُخرى؟ ثمّ إذا أخذ بطريقة أهل السنَّة فمن يقلِّد؛ من المذاهب الاَربعة أو من غيرهم من المذاهب المندرسة؟ هكذا يقع التساؤل لمن اُعطي الحريّة في التفكير والاختيار؛ حتى يلتجىء من الحق إلى ركن وثيق.
ولاجل هذا وجب علينا - بعد هذا - أن نبحث عن الاِمامة، وأن نبحث عمّا يتبعها في عقيدة الامامية الاثني عشرية.
[1] راجع مبحث «عقيدتنا في الاَنبياء وكتبهم».
[2] بل على العكس من ذلك؛ حيث كان عيسى عليهالسلام يبشّر بالنبي الذي يأتي من بعده، وقال تعالى في ذلك: (وَإِذْ قَالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ ي-بَني إسرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إليْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَورية وَمُبَشرَاً بِرَسولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ فَلَمّا جَاءَهُمْ بِالبْيِّنتِ قالوا هذا سحْرٌ مُبينٌ) الصف 61: 6.
[3] انظر: صحيح مسلم: 3/1471 ح1842، مسند أحمد: 3/32، المعجم الكبير: 8/161 ح7617، سنن البيهقي: 8/144، الاَمالي للشيخ المفيد: 33.
[4] النجم 53: 3 - 4.
[5] القيامة 75: 36.
[6] القيامة 75: 14.
[7] المزمل 73: 19.