إنّ زوجة زكريّا (عليه السلام) وأُم مريم كانتا أُختين، وكانتا عاقرين، وعندما رزقت أُمّ مريم بلطف من الله الذرية الصالحة، ورأى زكريّا (عليه السلام) خصائصها العجيبة، تمنّى أن يرزق هو أيضاً ذرّية صالحة وطاهرة وتقيّة مثل مريم، بحيث تكون آية على عظمة الله وتوحيده، وعلى الرغم من كبر سن زكريّا(عليه السلام) وزوجته، وبُعدهما من الناحية الطبيعيّة عن أن يرزقا طفلاً، فإنّ حبّ الله ومشاهدة الفواكه الطرية في غير وقتها في محراب عبادة مريم، أترعا قلبه أملاً بإمكان حصوله في فصل شيخوخته على ثمرة الأُبوّة، لذلك راح يتضرّع إلى الله (...قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)[1].
بشارة ولادة يحيى (عليه السلام):
لم يمضِ وقت حتّى أجاب الله دعاء زكريّا. (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ..)[2].
وفيما كان يعبد الله في محرابه. نادته ملائكة الله وقالت له إنّ الله يبشّرك بمولود اسمه يحيى بل إنه لم يكتفوا بهذه البشارة حتّى ذكروا للمولود صفات:
منها: سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان: (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ)[3]. و(كلمة الله) هنا وفي مواضع أُخرى من القرآن تعني المسيح (عليه السلام) ـ وقد جاء في التاريخ أنّ يحيى كان يكبر عيسى ستة أشهر، وكان أول من آمن به. وإذا كان قد اشتهر بين الناس بالطهر والزهد، فقد كان لإيمانه هنا بالمسيح تأثير كبير على الناس، في توجيههم وحثّهم على الإيمان به.
ومنها: سيكون من حيث العلم والعمل قائداً للناس (وَسَيِّداً)، كم أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا.
وأيضاً من الصفات: أنّه سيكون (نَبِيّاً) وأنّه (مِّنَ الصَّالِحِينَ).
فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحاً وسروراً، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبّه من ذلك فقال: (قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)، فأجابه الله تعالى: (كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء)[4]، لما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته، قنع بذلك.
آية على ولادة يحيى (عليه السلام):
هنا يطلب زكريّا من الله إمارة على بشارته بمجيء يحيى. إنّ إظهار دهشته وكذلك طلب علامة من الله، لا يعنيان أبداً أنّه لا يثق بوعد الله، خاصّة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله: (كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء)، إنَّما كان يريد زكريّا (عليه السلام) أن يتحوّل إيمانه بهذا إيماناً شهودياً، كان يريد أن يمتلئ قلبه بالاطمئنان، كما كان إبراهيم (عليه السلام) يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسّي.
(...آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا...)[5].
أجاب الله طلب زكريّا هذا أيضاً، وعيَّن له علامة، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدّة ثلاثة أيّام بغير أيّ نقص طبيعي، فلم يكن قادراً على المحادثة العادية، ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح الله ويذكره، هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة الله على كلّ شيء، فالله القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولداً مؤمناً هو مظهر ذكر الله، وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريّا (عليه السلام).
وفي الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر طيّاتها، وهو أنّ إلحاح زكريّا على طلب العلامة والآية وإن لم يكن أمراً محرماً ولا مكروهاً- كان من نوع (ترك الأولى). لذلك قرّر له علامة، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة الله، طافحة بالإشارة إلى تركه للأولى.
وهب الله له ولداً شبيهاً بعيسى بن مريم في كثير من الصفات: في النبوّة وهما صغيران، وفي معنى اسميهما (عيسى (عليه السلام) ويحيى (عليه السلام) كلاهما بمعنى البقاء حيّاً)، وفي تحية وسلام الله عليهما في المراحل الثلاث: الولادة، والموت، والحشر وجهات أخرى[6].
صفات النبي يحيى (عليه السلام) في القرآن:
(يحيى) (عليه السلام) من أنبياء الله الكبار، ومن جملة امتيازاته ومختصاته أنّه وصل إلى مقام النّبوة في مرحلة الطفولة، فإِن الله سبحانه قد أعطاه عقلاً وذكاءاً وقّاداً ودراية واسعة في هذا العمر، بحيث أصبح مؤهلاً لتقبل هذا المنصب.
والمستفاد من المصادر الإسلامية والمسيحية أن يحيى (عليه السلام) كان بن خالة عيسى (عليه السلام).
فقد صرّحت المصادر المسيحية بأنّ يحيى غسل المسيح (عليه السلام) غسل التعميد، ولذلك يسمّونه (يحيى المعمد) وغسل التعميد غسل خاص يغسل المسيحيون أولادهم به، ويعتقدون أنّه يطهرهم من الذنوب ولما أظهر المسيح (عليه السلام) نبوته آمن به يحيى (عليه السلام).
لقد كان بين يحيى وعيسى (عليه السلام) جوانب مشتركة، كالزهد الخارق غير المألوف، وترك الزواج لأسباب ذكرت في محلها، وولادتهما التي تحمل طابع الإعجاز، وكذلك النسب القريب جدًا.
(يحيى) من الحياة وتعني البقاء حيّاً، وقد اختيرت هذه الكلمة اسماً لهذا النبيّ العظيم، والمقصود بالحياة هنا هي الحياة المادّية والحياة المعنوية في نور الإيمان ومقام النبوّة والارتباط بالله، وهذا الاسم قد اختاره الله له قبل أن يولد، كما جاء في سورة مريم (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً)[7]، ومن هذا يتبيّن أيضاً أنّ أحداً لم يسبق أن سمّي بهذا الاسم.
صفات يحيى (عليه السلام) البارزة:
أشار القرآن الكريم إلى المواهب العشرة التي منحها الله ليحيى (عليه السلام) والتي اكتسبها بتوفيق الله:
1- (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)[8]، وهو أمر النّبوة والعقل والذكاء والدراية.
2- (وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا...)، والحنان في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبّة وإظهار العلاقة والمودّة للآخرين.
3- (وَزَكَاةً)؛ أي أعطيناه روحاً طاهرة وزكية.
4- (وَكَانَ تَقِيّاً)[9]، فكان يتجنب كل ما يخالف الأوامر الإلهية.
5- (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ) فقد كان باراً بوالديه.
6- (وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً). فلم يكن رجلاً ظالمًا ومتكبراً وأنانياً.
7- ولم يكن (عَصِيّاً)[10]. ولم يقترف ذنباً ومعصية.
ولما كان جامعاً لكل هذه الصفات البارزة، والأوسمة الكبيرة، فإن الله سبحانه قد سلّم عليه في ثلاثة مواطن: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً)[11].
النبوة في الطفولة:
صحيح أنّ مرحلة النضج العقلي للإنسان لها حدّ معين عادة، إِلّا أنّه يوجد أفراد استثنائيون بين البشر دائماً، فأي مانع من أن يختصر الله هذه المرحلة لبعض عباده لمصالح ما، ويجعلها تتلخص في سنوات أقل؟ كما أن مرور سنة أو سنتين على الولادة أمر محتّم من أجل التمكن من النطق عادة، في حين أنا نعلم أن عيسى (عليه السلام) قد تكلّم في أيامه الأُولى، وكان كلاماً عميق المحتوى من شأنه أن يصدر عادة عن أناس كبار في السن.