القران الكريم كتاب هداية وحق، وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل بأدنى مراتبه وأنواعه، وقد استعمل الأساليب العربية في عرض المفاهيم والخطابات، وضمّنها العلوم المختلفة والأفكار والمنهج الذي يقوّم حياة الإنسان بجميع الأبعاد، فقال الله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)[1].
ونتيجة لتنوع أساليب القرآن الكريم في إبراز المعاني المختلفة جاءت بعض الآيات الكريمة بتعابير يظهر منها معنىً في الوهلة الأولى، لكن بالتأمل وإعمال الفكر يتبين منها معنىً آخر لا يتوافق مع الأول: منها قوله تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)[2]، فإنه يظهر منها إمكانية ركون النبي(صلى الله عليه وآله) للكافرين، لكنا نعلم بالضرورة أن نبينا الكريم(صلى الله عليه وآله) منزّه عن مثل هذا الركون، فهو خلاف عصمته(صلى الله عليه وآله)، بل خلاف رسالته(صلى الله عليه وآله)، ونحن نريد أن نفهم تفسير الآية الكريمة لكي ندافع عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) أمام شبهات الجاهلين وأفهام المغفّلين فنقول: فعلاً ليس المقصود في الآية الكريمة غير النبي(صلى الله عليه وآله) ومع ذلك لا يتنافى مضمونها مع عصمته أو رسالته(صلى الله عليه وآله)، وبيان ذلك، أن كلمة (وَلَوْلَا) في العربية تدل على امتناع حصول الشيء لوجود شيء غيره، وعليه يكون مفاد الاية: أن ركونك قد امتنع بسبب تثبيتنا لك.
والآية تدل على عدم ركونه(صلى الله عليه وآله) للمشركين، والمعنى إن ثباتك أيها النبي، وهذا الإنجاز العظيم، وصبرك على أداء الرسالة إنما هو بلطف الله تعالى وتسديده، وليس بقدرتك الذاتية المستقلة، بحيث تكون قد استغنيت بقدرتك تلك عن المدد واللطف الإلهي.
وهذا المعنى من صميم عقائدنا وأصولنا.
كما أن هذا الأسلوب القرآني يتضمن بيان مدى خطورة الركون إلى أولئك المنحرفين، فإذا كان اللهُ تعالى لم يقبل مثل هذا الفعل من النبي(صلى الله عليه وآله)، ولا تشفع له كل جهوده وطاعته وخضوعه، وعبادته وتضحياته، وإنه إن صدر منه ذلك سوف يعذبه الله تعالى أضعافاً من العذاب، ويحرمه نصرته كما في الآية اللاحقة (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)[3]، مع فرض كون ركونه(صلى الله عليه وآله) شيئاً قليلاً، فكيف يكون عقابُ غيره من الناس الذي ليس له مقامه، ولا جهاده، ولا تضحياته، إذا ارتكب الركون إليهم، وصار معهم ومنهم.
وبذلك تكون هذه الآية جارية وفق قاعدة: «إياك أعني، واسمعي يا جارة».
وعلى هذا المنوال وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة يمكن أن نحملها على هذا التأويل وهذا النحو من التوجيه، بحيث يورد قضية ممتنعة، من أجل التلميح بموقف آخر من باب الأولى، كما في قوله تعالى: (... لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[4] حيث لا شك ولا ريب أن الشرك لا يصدر عن النبي(صلى الله عليه وآله).
ومنه أيضاً قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)[5].
ومنه قوله تعالى للنبي عيسى بن مريم(عليه السلام): (... أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ الله...)[6].
بل بعض الآيات تتحدث بهذا المعنى عن ساحة الربوبية كما في قوله تعالى مخاطباً النبي(صلى الله عليه وآله): (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)[7].
مجلة ولاء الشباب العدد (27)