صفات الله الثبوتية (الجمالية)

قسّم علماء الكلام الصفات الإلهية على قسمين، وهما: الصفات الثبوتية (الجمالية)، والصفات السلبية (الجلالية).

اصطلح علماء الكلام على كلّ صفة تُثبت جمالاً وكمالاً للذات الإلهية، وتُشير إلى واقعية فيها، بصفةٍ ثبوتيةٍ (جمالية)، وعليه فالصفات الثبوتية (الجمالية) هي: عبارة عن مجموعة من الصفات تُثبت كلّ مقتضيات وجود الكمال والجمال للذات الإلهية، كصفة العلم، والحياة، والقدرة، ونحوها.

الغاية من معرفة صفات الله تعالى

الغاية تكمُن في كون الذات الإلهية ليس لها نظير ولا مثيل، كما أنّها ليس لها عِدل ولا شبيه، وكُنه الذات الإلهية ليس للإنسان سبيل إلى معرفته، ولكن يمكن معرفته من خلال صفاته الثبوتية (الجمالية)؛ لأنّ الصفات عبارة عن السبيل للتعبير عنه وبيان ذاته المقدّسة، وهذه الصفات تنقسم بدورها على قسمين: الأول منها: هو الصفات الثبوتية الذاتية، والآخر هو الصفات الثبوتية الفعلية، والمقصود بالذاتية: هو كون الصفة التي يكون ثبوتها لله تعالى مأخوذ فيها لحاظ الذات الإلهية فقط دون لحاظ شيء آخر(كالعلم، والحياة، والقدر)، والفعلية: هي الصفات التي يكون ثبوتها لله تعالى مأخوذ فيها لحاظ الأفعال الإلهية، أي: هي الصفات التي يتّصف بها الله تعالى من خلال الأفعال الصادرة عنه (كالخالق، والرازق، والصانع)[1].

عدد هذه الصفات

حصرها العلماء في ثمانية، وهي: (العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والغنى، والسمع، والبصر)، ولكن مقتضى النظر العميق والدقيق يُشير إلى عدم حصر الصفات الثبوتية (الجمالية) بعدد معيّن؛ لأنّ الملاك فيها هو أنّ كلّ وصف يعدّ كمالاً فالله متّصف به، وما يؤيد ذلك هو أنّ العدد المذكور في القرآن الكريم لصفات الله يفوق ما ذكره العلماء[2].

أدلة إمكان معرفة صفات الله تعالى

1ـ جعل الله تعالى (صفاته) طريقاً؛ لأجل أن يتعرّف عباده عليه، فلو كانت هذه المعرفة غير ممكنة، لم يتبقَ للعبد طريقاً لمعرفته تعالى، فتنسد بذلك أبواب عبوديته تعالى؛ لأنّ العبودية لا يمكن القيام بها إلاّ بعد معرفة المعبود.

2ـ ذُكر صفات الله تعالى في الكتاب العزيز والسنّة النبوية؛ لأجل أن يتدبّرها العباد بعقولهم. فلو كانت معرفتها أمراً غير ممكن، لكان ذكر هذه الصفات في القرآن والسنّة والتحريض على التدبّر فيها لغواً يتنزّه عنه تعالى.

3ـ ما يستحيل معرفته هو الذات الإلهية، والنهي الذي جاء في بعض الأحاديث واقع على هذه المعرفة، لا على معرفة الصفات التي هي مفاهيم منتزعة من الذات[3].

مدى معرفته تعالى عن طريق معرفة صفاته

القول بأنّ صفات الله هي الطريق لمعرفته سبحانه وتعالى، لا يعني ذلك أنّ هذه الصفات قادرة على بيان كُنه وحقيقة الذات الإلهية، بل إنّ هذه الصفات هي عبارة عن مفاهيم وُضِعت لتُرشد العباد ـ بمقدار وسعها المحدود ـ إلى معرفة الله الإجمالية؛ إذ إنّ ما كان محدوداً لا يمكنه الإحاطة والمعرفة الكاملة بما هو (غير محدود)[4].

توقيفية صفات الله تعالى

ورد في أحاديث أهل بيت العصمة (عليهم السلام) أنّ صفاته تعالى توقيفية ولا يجوز لأحد أن يصفه الله تعالى بصفة، إلّا بما وصف به نفسه في كتابه العزيز، أو جاءت على لسان رسوله (صلى الله عليه وآله)، أو أوصيائه (عليهم السلام)[5].

ومن جملة تلك الأحاديث، هي: قال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): «ما دلّك القرآن عليه من صفته فاتبعه؛ ليوصل بينك وبين معرفته، وأتم به واستضئ بنور هدايته، فإنّها نعمة وحكمة أوتيتهما، فخذ ما أوتيت وكنْ من الشاكرين، وما دلّك الشيطان عليه ممّا ليس في القرآن عليك فرضه، ولا في سنّة الرسول وأئمّة الهدى أثره، فكِل علمه إلى الله (عزّ وجلّ)؛ فإنّ ذلك منتهى حق الله عليك»[6].

وقال علي بن موسى الرضا (عليه السلام): «مَن وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه، فقد أعظم الفرية على الله»[7].

صفة الحياة

صفة الحياة: هي صفة ثبوتية (جمالية) لله تعالى، وأنّ (الحي) اسم من أسمائه سبحانه، وعُرّفت صفة الحياة بشكل عام بأكثر من تعريف؛ لأنّها تشمل حياة الإنسان، والحيوان، والنبات، وغيرها، إلّا أنّنا بُغية الإيجاز لا نتطرّق لتلك التعريفات ونقتصر على بيان تعريف الحياة بالنسبة للذات المقدّسة فحسب، فنقول: ماذا نعني بقولنا: إنّ الله حيّ؟

نقول قبل بيان تعريف الحياة: إنَّ كلّ إنسان يُميّز بين الموجود الحي والموجود غير الحي، ويُدرك بأَنَّ الحياة ضدّ الموت، إِلاّ أَنَّه رغم تلك المعرفة العامّة، لا يستطيع أحد إدراك حقيقة الحياة في الموجودات الحيّة.

فالحياة أَشدّ الحالات ظهوراً، ولكنّها أَعسرها على الفهم، وأَشدّها استعصاءً على التحديد.

تعريف الحياة: هي صفة توجب صحة اتّصاف الذات بالعلم والقدرة.

أي: لا تتصف أيّة ذات بصفة العلم والقدرة إلاّ بعد اتّصافها بصفة الحياة.

والضرورة تقضي بأنّ كلّ عالم وقادر حيّ وبما أنّ الذات الإلهية عالمة وقادرة فهي متصفة بالحياة، وحياتها أزليّة أبديّة، ليست بروح ودم[8].

دليل حياته سبحانه وتعالى

لا أظن أنَّك تحتاج في توصيفه سبحانه بالحياة إلى برهان بعد الوقوف على أمرين:

الأول: قد ثبت بالبرهان أَنَّه سبحانه عالم وقادر.

الثاني: وجود هذا العالم، فلو لم تكن الذات الإلهية حيّة لم يوجد شيء من العالم، لكنّ وجود العالم ثابت بالحس والضرورة بلا شك.

فإذا تقرر هذان الأَمران تكون النتيجة القطعية أَنَّه سبحانه بما أَنَّه عالم وقادر، وأوجد هذا العالم المحسوس فهو حيّ؛ ولأَجل ذلك نرى أَنَّ الحكماء يستدلون على حياته بقولهم: «إنه تعالى حي لامتناع كون من يمكن أنْ يوصف بأنَّه قادر عالم، غير حي»[9].

وفي الحقيقة حياته سبحانه عبارة عن اتصافه بالقدرة والعلم كما تقدّم، وأنَّ جميع صفاته سبحانه وإِنْ كانت مختلفة مفهوماً، لكنّها متحدة واقعاً ومصداقاً.

فضلا عن كونه سبحانه خلق موجودات حيّة، مُدركة وفاعلة، فمن المستحيل أنْ يكون مُعطي الكمال فاقداً له.

حياته سبحانه في الكتاب العزيز

إِنَّ الله تعالى يصف نفسه في الذكر الحكيم بالحياة التي لا موت فيها إذ يقول: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)[10]. وقد جاء لفظ (الحي) فيه اسماً له سبحانه خمس مرّات. يقول جلّ وعلا: (الله لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ)[11].

حياته سبحانه في السنَّة الشريفة

قال الإمام محمد الباقر(عليه السلام): «إِنَّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيرُه، نوراً لا ظلامَ فيه، وصادقاً لا كذب فيه، وعالماً لا جَهْل فيه، وحيَّاً لاَ مَوْتَ فيه، وكذلك هو اليوم وكذلك لا يزال أبداً»[12].

وقال الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): «إِنَّ الله لا إله إلاَّ هو: كان حياً بلا كَيْف... كان عزّ وجل إِلهاً حيّاً بلا حياة حادِثة، بل هو حي لنفسه»[13].

فحياته سبحانه كسائر صفاته الكمالية، صفةٌ واجبة لا يَتَطَرّق إليها العدم، ولا يَعرِض لها النفاد والانقطاع، لأنَّ تطرّق ذلك يضادّ وجوبَها وضرورتَها، ويناسب إمكانَها، والمفروض خلافه.

صفة العلم

قبل بيان هذه الصفة لا بدّ من التعرّف أولاً ـ ولو بشكل موجزـ على معنى العلم وأقسامه، وأي قسم منها يتناسب كصفة لله تعالى.

ما هو العلم؟

عُرّف العلم بأنّه: حضور صورة الشيء المعلوم في الذهن، أو هو العلم بالشيء عن طريق صورته المنتزعة منه والحاكية عنه[14].

ولكن هذا التّعريف ناقص؛ لعدم شموله لبعض أقسام العلم، فهو يناسب القسم الأوّل دون الثاني؛ لأنّه لا يشمله، ولبيان ذلك نقول ينقسم العلم على قسمين:

القسم الأول: العلم الحصولي: وهو انطباع صورة الشيء المعلوم في الذهن، ومعظم علم الإنسان من هذا القبيل، وفيه يعلم الإنسان الأشياء عن طريق انعكاس الصورة الحاصلة منها على صفحة ذهنه[15].

القسم الثاني: العلم الحضوري: وهو حصول المعلوم بوجوده لدى العالم، كعلم

الإنسان بذاته التي يشير إليها بـ (أنا)، أي: يكون الشيء معلوماً عند العالم بنفسه لا بتوسّط صورته[16].

علمه سبحانه حضوريٌ لا حصوليّ:

مما تقدّم تعرّفنا على الفرق بين العلم الحصولي والحضوري، وأنّ الذي ينبغي علينا معرفته هو أنّ علم الله سبحانه وتعالى بذاته وبفعله حضوري: فعلمه الذاتي بذاته لعدم غيبوبة ذاته عن ذاته وحضورها لديها، وعلمه بالأشياء فعلى وجهين:

الأوّل: إنّ العلم بالذات علم بالحيثيّة التي تصدر عنها الأشياء والعلم بتلك الحيثيّة علم بالأشياء. وبذلك يتّضح أنّ علمه سبحانه بذاته كشفٌ تفصيليٌ عن الأشياء على الوجه اللائق بذاته.

الثاني: حضور الممكنات لدى الواجب. لأن الممكن قائم بوجود الباري سبحانه حدوثاً وبقاءً وإنّ قيامه بذاته سبحانه.

وهذا النحو من الوجود لا يقبل الغيبوبة إذ هي مناط انعدامه وفنائه، فإذا كانت الموجودات الإمكانيّة بهذه الخصوصيّة، فكيف يُتصوّر لها الانقطاع عنها؟ وما هو إلّا فَرْضُ انعدامها وفنائها، فعلى ذلك فالعالَم بعامّة ذرّاته، فعله سبحانه وإيجاده، وفي الوقت نفسه حاضر لديه وهو أيّ الحضور، علمه؛ فعلم الله وفعله مفهومان مختلفان ولكنّهما متصادقان في الخارج[17].

علمه سبحانه بالجزئيّات:

إنّ الكون برمته متجدّد متغيّر باستمرار، ولكن يراه الناظر ثابت ومستقر بسبب خطأ حواسه، والحقيقة غير ذلك، فالمادة بجميع ذرّاتها خاضعة للتغيّر والتبدّل في كلّ آن وأوان، فكلّ ظاهرة مادية مسبوقة بالعدم الزماني، ووجود المادّة التي حقيقتها التدرّج أشبه بعين نابعة يتدفق منها الماء باستمرار، فليس لها بقاء وثبات وجمود واستقرار.

فإذا كانت الخلقة وإفاضة الوجود على وجه التدريج والتجزئة، ولم يكن بإمكان المعلول الخروج عن علّته، يظهر أن العالَم بذرّاته وأجزائه، حسب صدوره من الله تعالى، معلوم له، فالإفاضة التدريجيّة، والحضور بوصف التدرّج لديه سبحانه، يلازم علمه تبارك وتعالى بالجزئيات الخارجيّة[18].

آيات قرآنية في علم الله تعالى:

لا شك ولا ريب في قولنا: إنّ الله بكلّ شيء عليم ومحيط؛ لأنّه تعالى عالم بما مضى وما يأْتي وما هو كائن وما في الكون من الأسرار؛ إذ يقول سبحانه وتعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِين)[19].

ويقول سبحانه: (اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ)[20].

وقال عزّ من قائل: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[21].

صفة الكلام

إنّ مسألة التكلّم بالنسبة لله تعالى مسألة طرحت على بساط المناقشات في تاريخ علم الكلام، وقد شغلت ماهية كلامه جلّ ذكره -هل هو حادث أو قديم- فكر العلماء والمفكّرين الإسلاميّين في عصر الخلفاء، وحدثت بسببها مشاجرات، بل صدامات دامية ذكرها التاريخ وسجّل تفاصيلها عرفت بـ(محنة خلق القرآن)، ويرى بعضٌ أنّ السبب في إطلاق مصطلح (علم الكلام) على هذا العلم، فالمقصود بالكلام:(كلام الله عزّ وجلّ)، وهذا يبيّن لنا أهمية هذا الموضوع.

حقيقة كلام الله عند مدرسة أهل البيت (عليه السلام)

ورد ذكرها في الكتاب العزيز حينما خاطب الله تعالى نبيّه موسى في الوادي المقدّس طوى بقوله جلّ ذكره: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا الله رَبُّ الْعَالَمِينَ)[22].

وقوله تعالى: (وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً)[23]، أي: إنّ الله تعالى قد خلق الكلام في الشجرة في البقعة المباركة؛ ليوصل بذلك مقصوده إلى موسى(عليه السلام)، وعليه فكلام الله عند الشيعة الاثني عشـرية هو عبارة عن أصوات وحروف يخلقها الله ليوصل عن طريقها مقصوده إلى المخاطَب، ويُسمّى هذا الكلام بـ(الكلام اللفظي)[24]، وعن الرضا(عليه السلام) قال: «فكلّمه [أي: موسى] الله تعالى ذكره وسمعوا [أي: قوم موسى] كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام؛ لأنّ الله (عزّ وجلّ) أحدثه في الشجرة وجعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه»[25]؛ لذا قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كلّم الله موسى تكليماً بلا جوارح وأدوات وشفة، ولا لَهوات، سبحانه وتعالى عن الصفات»[26].

حقيقة كلام الله عند المدارس غير الشيعية:

الأشاعرة: يقولون بأنّ الله تعالى متكلّم، ولكن يختلفون عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وكذلك عن المعتزلة من حيث كون الصفة صفة ذاتية أم صفة فعلية؟ وكذلك ماهية الكلام هل هي ألفاظ وحروف أو أنّها حديث نفس؟ وهل كلامه حادث مخلوق أو أنّه قديم؟ وزبدة ما قالوا في هذه الصفة هو أنّها: «صفة أزلية قديمة، قائمة بذات الله، غير منفصلة عنه، ويستحيل على الله ضدّها. وهذه الصفة لله تعالى ليست بحرف ولا صوت... لا نثبت لله تعالى إلّا كلام النفس»[27].

يلاحظ على اعتقاد الأشاعرة هو أنّهم جعلوا صفة الكلام صفة ذاتية قديمة وليست فعلية حادثة، وأنّ كلام الله ليس بحروف ولا أصوات، بل هو حديث نفسي لا غير أي المعنى القائم بالنفس.

وهذا الرأي ناشئ من توهم أنّ صورة الكلام اللفظي المتمثلة في أفق النفس هي كلام نفسي، ولكن هذا التوهم خاطئ، لسببين:

«الأوّل: أنّ هذه الصورة وإن كانت موجودةً في أفق النفس ومتمثلة فيه، إلاّ أ نّها ليست بكلام نفسي، ضرورة أنّ الكلام النفسي عند القائلين به مدلول للكلام اللفظي، والمفروض أنّ تلك الصورة بهذا الإطار الخاص ليست كذلك، لما عرفت من أنّ مدلول الكلام سواء أكان إخبارياً أم إنشائياً أجنبي عنها.

الثاني: أنّ هذه الصورة نوع من العلم والتصور وهو التصور الساذج، وقد تقدّم أنّ الكلام النفسي عندهم صفة أخرى في مقابل صفة العلم والإرادة ونحوهما)[28].

المعتزلة:

قالوا بأنّ الله متكلّم، وحقيقة كلامه تعالى هي كونه مؤلف من حروف وأصوات، ولكنّها ـ أي: الحروف والأصوات ـ ليست قائمة بذاته، وإنَّما يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ، أو الملك جبريل، أو النبي (صلى الله عليه وآله) وهي حادثة وليست قديمة أزلية[29]. فخالفوا بذلك الأشاعرة في كون صفة التكلّم هي ليست صفة قديمة بل هي حادثة، كما أنّها ليست بذاتية قائمة بذاته، بل هي حادثة مخلوقة، ودليلهم قوله تعالى: (الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ...)[30].

وهذا استدلال ضعيف فالمراد من قوله تعالى: اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ...[31]. أي: كلّ شيءٍ مخلوقٍ، وكل موجودٍ سوى الله، فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى وصفاته؛ لأنّه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه

وبما أن القرآن كلام الله، وكلامه تعالى صفة من صفاته. إذاً القرآن ليس داخلاً في عموم الآية، فهو ليس مخلوقاً؛ وبذلك يبطل استدلالكم بهذه الآية.

صفة الرازقية

وصف الله تعالى بصفات الأفعال معناه أنّه قبل صدور الفعل لا يصح وصفه سبحانه بتلك الصفة، فالصفات الفعلية ترجع إلى الله تعالى، بمعنى أنّه خلقها ونسبها إلى نفسه، فلا يقال له رازق، إلّا بعد أن يرزق، أي: قبل رزقه الخلق لا يوصف بأنّه رازق.

وهذا المعنى قد أشار إليه أحد العلماء بقوله: «ما لم يصدر من الله فعل كالرازقيّة، لا يمكن وصفه فعلاً بالرازق، وإن كان قادراً ذاتاً على الرزق»[32].

معنى الرزق:

فالرزقُ لغة: «الرِزق بكسر الراء هو اسم يُعبَّر به عن المصدر، ويُقال: رِزقـاً اسم المصدر ويستخدم أحياناً موضع المصدر الأصلي. ويُجمع رِزق ورَزق على أرزاق، والرزَّاق من أبنية المبالغة على صيغة فعَّال»[33].

الرِّزقُ اصطلاحاً: هو كلُّ ما يُنتَفَعُ بهِ من مالٍ أو زَرعٍ أو غيرِهما، وهو مقسوم على ضربين: أحدهما واصل إلى صاحبه وإن لم يطلبه، والآخر معلّق بطلبه، فالذي قسم للعبد على كل حال آتيه وإن لم يسعَ له، والذي قسم له بالسعي فينبغي أن يلتمسه من وجوهه، وهو ما أحله الله تعالى له دون غيره، فإن طلبه من جهة الحرام، فوجده، حسب عليه برزقه، وحوسب به[34].

العدالة الإلهيَّةُ في الرِّزق:

الأرزاقَ جميعها مُقسّمةٌ من عند الله، وهو الذي يَسوقُها لِعبادِهِ كيفما شاء ووقتما يشاء، دونَ كدٍّ مِنهُم ولا تَعبٍ، وذلك لأنّه سبحانه وتعالى قد تكفَّل بتوفير الرزق لعباده جميعاً وهذا هو الضرب الأول من الرزق، والضرب الثاني هو الذي يتفاوت بتفاوت أساليب السعي للحصول على الرزق، ويرجع ذلك لتفاوت الناس بأعمالِهِم واجتِهادهم في طلب الرزق[35].

أنواع الرزق:

الرزق نوعان، عامّ وخاصّ:

فالعامّ إيصاله لجميع الخليقة ما تحتاجه في معاشها وقيامها، فسهّل الله لها الأرزاق، ودبرّها في أجسامها، وساق إلى كلّ عضو صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عامّ للبرّ والفاجر والمسلم والكافر، بل للآدميين والجنّ والملائكة والحيوانات كلّها. وعام أيضاً من وجه آخر في حق المكلّفين، فإنّه قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من الحرام، فإن طلبه من جهة الحرام، فوجده، حسب عليه برزقه، وحوسب به[36].

وأمّا النوع الثاني، وهو الرزق الخاصّ، وهو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، كرزق القلوب بالعلم والمعرفة والإيمان والإخلاص وحقائق ذلك هو أنّ القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألهة لله متعبدة به، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها. ورزق البدن بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه، فإنّ الرزق الذي خصّ به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين[37].

ولا شك أنّ هناك رزق تطلبه ورزق يطلبك ومثال هذا النوع الثاني الميراث، فالميراث لا يُحصّله العبد الوارث بكدّه وتعبه، بل يكون له من غير سعي ولا اكتساب، ويأتيه في موعد يشاؤه الله تعالى ويختاره.

والنوع الأول من الرزق الذي يطلبه العبد، أمثلة كثيرة ويدخل فيه ما يحصل عليه الزّراع، ‏والتُجّار، والعمّال، وغيرهم من أجور ومكافآت على عملهم، وهذا النوع من الرزق لا يحصل للعبد إلّا ‏بسعيٍ منه واكتساب وجِدٍّ وعمل.

مجلة ولاء الشباب الأعداد (51، 52، 53، 59، 60)

 


[1] ينظر: العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، جعفر السبحاني: ج1، ص65.

[2] ينظر: الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة، محمد مكي العاملي: ج1، ص83.

[3]  ينظر: التوحيد عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، علاء الحسون: ص57.

[4] ينظر: المصدر السابق: ص57-58.

[5] ينظر: أوائل المقالات، الشيخ المفيد: ص53.

[6] التوحيد، الشيخ الصدوق: ج1، ص55.

[7] بحار الأنوار، المجلسي: ج3، ص53.

[8] ينظر: السبحاني، الإلهيات: ج1، ص153ـ ص158.

[9] العلامة الحلي، كشف الفوائد: ص46.

[10] الفرقان: آية 58.

[11] البقرة: آية 255.

[12] الصدوق، التوحيد: ص141.

[13]  الصدوق، التوحيد: ص141.

[14] ينظر: المنطق، المظفر: ج1، ص13.

[15] ينظر: المصدر السابق.

[16] ينظر: خلاصة علم الكلام، الفضلي: ص35.

[17] ينظر: محاضرات في الإلهيات، السبحاني: ص94.

[18] ينظر: توحيد الإمامية، محمد باقر الملكي: ص277.

[19] الأنعام: 59.

[20] الرعد: 8.

[21] سبأ: 3.

[22] القصص: آية 30.

[23] النساء: آية 164.

[24] ينظر: النكت الاعتقادية، المفيد: ص27.

[25] مسند الإمام علي (عليه السلام)، حسن القبانجي: ج2، ص128.

[26] المصدر السابق: ص25.

[27] الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي: ص92ـ 93.

[28] شرح المواقف، الشريف الجرجاني: ج1، ص56.

[29]  ينظر: شرح المواقف، الإيجي: ج8، ص91 ـ 92.

[30] الرعد: 16.

[31] الرعد: 16.

[32] ينظر: العقيدة الإسلامية، جعفر السبحاني: ص68.

[33] لسان العرب، ابن منظور: ج10، ص115.

[34] ينظر: المقنعة، الشيخ المفيد: ص586.

[35] ينظر: الرزق وأسبابه، إبراهيم الدويش: ص24.

[36] ينظر: المقنعة، الشيخ المفيد: ص586.

[37] ينظر: الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، القرطبي: ج1، ص284.