بسم الله الرحمن الرحيم
(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
قال تعالى: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[1] الرضى منا موافقة النفس لفعل من الأفعال من غير تضاد وتدافع يقال: رضى بكذا أي وافقه ولم يمتنع منه، ويتحقق بعدم كراهته إياه سواء أحبه أو لم يحبه ولم يكرهه فرضى العبد عن الله هو أن لا يكره بعض ما يريده الله ولا يحب بعض ما يبغضه ولا يتحقق إلا إذا رضي بقضائه تعالى وما يظهر من أفعاله التكوينية، وكذا بحكمه وما أراده منه تشريعا، وبعبارة أخرى إذا سلّم له في التكوين والتشريع وهو الإسلام والتسليم لله سبحانه.
وأما رضاه تعالى فإنما هو من أوصافه الفعلية دون الذاتية فإنه تعالى لا يوصف لذاته بما يصير معه معرضا للتغيير والتبدل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثم الرضى إذا تاب إليه، وإنما يرضى ويسخط بمعنى انه يعامل عبده معاملة الراضي من إنزال الرحمة وإيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة وتسليط النقمة والعقوبة، ولذلك كان من الممكن أن يحدث له الرضى ثم يتبدل إلى السخط أو بالعكس[2].
الرضا المتبادل:
إن الآية تذكر نعمة رضى الله عن عباده، ورضى عباده عنه وتصف ذلك بأنه الفوز العظيم، وهذا يدل على مدى أهمية هذا الرضى المتبادل، فقد يكون أمرؤ غارقا في أرفع نعم الله، ولكنه إذا أحس بأن مولاه ومعبوده ومحبوبه ليس راضيا عنه، فإن جميع تلك النعم والهبات تصير علقما في ذائقة روحه.
كما يمكن أن يتوفر لأمرئ كل شيء، ولكنه لا يكون راضيا ولا قانعا بما عنده، فمن الواضح أن هذه النعم بأجمعها غير قادرة على إسعاد تلك الروح، بل تكون دائما معرضة لعذاب، وقلق غامض واضطراب نفسي مستمر يقضيان على الراحة النفسية التي هي من أعظم نعم الله.
ثم إذا كان الله راضيا عن امرئ فإنه يعطيه كل ما يريد، فإذا أعطاه كل ما يريد فإنه يكون راضيا عن ربه أيضا، من هنا فإن أعظم النعم هي أن يرضى الله عن الإنسان ويرضى الإنسان عن ربه[3].
فضيلة الرضا:
الرضا فضيلة عظيمة للإنسان، بل جميع الفضائل ترجع إليها، وهو نهاية الإحسان، وغاية الامتنان. وجعله النبي (صلى الله عليه وآله) دليلا على الإيمان، حين سأل طائفة من أصحابه، (ما أنتم؟) قالوا مؤمنون، فقال: (ما علامة إيمانكم؟) قالوا: نصبر على البلاء، ونشكر عند الرخاء، ونرضى بمواقع القضاء، فقال: (مؤمنون ورب الكعبة)[4].
وقال (صلى الله عليه وآله): (إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه)[5].
وقال (صلى الله عليه وآله): (أعطوا الله الرضا من قلوبكم، تظفروا بثواب فقركم)[6].
وقال (صلى الله عليه وآله): (إذا كان يوم القيامة، أنبت الله - تعالى - لطائفة من أمتي أجنحة، فيطيرون من قبورهم إلى الجنان، يسرحون فيها، ويتنعمون فيها كيف شاؤوا، فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب؟ فيقولون ما رأينا حسابا، فنقول لهم: هل جزتم الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطا، فتقول لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئا، فتقول الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون: من أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، فتقول: ناشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا، فبلغنا الله هذه المنزلة بفضل رحمته، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه، ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: يحق لكم هذا)[7].
وقال (صلى الله عليه وآله): (إن الله تعالى بحكمته وجلاله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط)[8].
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض أسفاره إذ لقيه ركب فقالوا: السلام عليك يا رسول الله،
فقال: ما أنتم؟
قالوا: نحن مؤمنون،
قال: فما حقيقة إيمانكم؟
قالوا: الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والتفويض إلى الله تعالى.
فقال (صلى الله عليه وآله): (علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فإن كنتم صادقين فلا تبنوا مالا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون)[9].
وروي: أن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) ابتلي في آخر عمره بضعف الهرم والعجز، فزاره محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، فسأله عن حاله، فقال: أنا في حالة أحب فيها الشيخوخة على الشباب، والمرض على الصحة، والموت على الحياة.
فقال الباقر (عليه السلام): (أما أنا يا جابر، فإن جعلني الله شيخا أحب الشيخوخة، وإن جعلني شابا أحب الشيبوبة، وإن أمرضني أحب المرض، وإن شفاني أحب الشفاء والصحة، وإن أماتني أحب الموت، وإن أبقاني أحب البقاء).
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): (الإيمان أربعة أركان: الرضا بقضاء الله والتوكل على الله وتفويض الامر إلى الله والتسليم لأمر الله)[10].
وقال الصادق (عليه السلام): (أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله)[11].
مجلة بيوت المتقين العدد (38)