قبل أن نعرض وقائع ما جرى من مطالبة الزهراء (عليها السلام) لحقها في فدك وكيف ردت وبأي حجة منعت حقها، وتقييم هذا الواقع ومعرفة أي الطرفين أحق بما قام به، وكيف نقيّم هذه التصرفات، كل ذلك يحتاج منا الإلمام ببعض التفاصيل عن الواقع الفقهي والقضائي ومعرفة بعض المصطلحات التي تدخل في معرفة ما جرى وكيف يقيم.
تمهيد:
لقد نظم الدين الإسلامي الجوانب الاجتماعية للفرد المسلم، لضمان حقوقهم وأموالهم من الضياع، وكان من جملة هذه الأحكام ما يتعلق بجانب المعاملات وما ينظم عملية نقل الملكية من البيع والشراء ونحوها من الممارسات التي يمارسها الناس في حياتهم اليومية، عن طريق إقرار كثير من المعاملات التي كانت جارية عند العرف - قبل الإسلام -،
مع تهذيب لها وإزالة الجوانب التي لا تتلائم مع روح الإسلام، كما إن الإسلام نصب مجموعة من الطرق الشرعية التي تكفل للناس إثبات حقوقهم وأموالهم وحمايتها من الضياع والاعتداء والغصب ونحو ذلك، وتسمى مجموعة القوانين والأحكام الشرعية التي عن طريقها يمارس الفرد عمله اليومي من البيع والشراء وغيرها من أسباب الرزق والتجارة ونقل الملكية، بالنواقل الشرعية حيث تضمن هذه المنظومة من القوانين كيفية صحيحة لانتقال المال من شخص لآخر - متى ما روعيت في عملية النقل بين طرفين - كان المال منتقلاً إلى الفرد بشكل شرعي يوفر له الحق الكامل في التصرف به، وبذلك يخرج هذا المال عن ملك الطرف الأول، إلى الطرف الثاني بشكل قانوني وشرعي في آن واحد.
أما القوانين التي عن طريقها يمكن إثبات ملكية الشخص لهذا المال دون غيره في مورد النزاعات والخصومات فتسمى أمارات الملكية.
أسلوب المحاكمة في الفقه الإسلامي
وقبل بيان هذين المصطلحين - وهما أمارات الملكية والنواقل الشرعية - وتسليط الضوء عليهما لا بد من نظرة سريعة على كيفية إجراء المحاكمات في الفقه الإسلامي لتتضح لنا بعض المصطلحات المهمة، فنقول:
إن في الدعاوى القضائية في الفقه الإسلامي هناك مصطلحان مهمان، وهما: المدعي، والمدعى عليه أو المنكر، والأول هو كل شخص يأتي للحاكم الشرعي لكي يقيم دعوى على شخص آخر، وتكون دعواه مخالفة لظاهر أو لأصل، وأما الشخص الآخر وهو المدعى عليه أو المنكر، فهو الذي يكون كلامه مطابقا للأصل أو الظاهر، أو بعبارة أخرى فإن الطرف الاول - المدعي - من يكون بصدد إثبات حاله جديدة لم تكن لولا دعواه، وأما الطرف الثاني وهو المنكر أو المدعى عليه فهو من لا يحتاج الى مؤنة لإثبات قوله، لأن قوله يمثل الحالة الطبيعية لولا دعوى الطرف الأول.
ولتوضيح هذه المصطلحات أكثر نورد بعض الأمثلة، فإذا كانت الخصومة على دَين بين طرفين أحدهما يقول إنه أقرض شخصا مالاً والآخر يقول إنه لم يقترض، فالأول يكون مدّعياً لأن كلامه مخالف للأصل والثاني يكون مُنكِراً لأن كلامه موافق للأصل، والأصل هنا هو العدم، إذ الأصل عدم الدين في زمان سابق، والشخص الأول يدعي حصول دين ما في زمان لاحق، بمعنى أنهما يتفقان على أنه في زمان ما لم يكن هناك دين، ولكن الطرف الأول يدعي حصول هذا الدين من قبله للطرف الثاني في زمان لاحق.
ومثال آخر: لو اختصم رجلان على شيء ما أنه ملك لأحدهما، فلو كان ذلك الشيء تحت يد أحدهما، أو كان يظهر من أحدهما أنه يتصرف فيه تصرف المالكين، فيكون صاحب اليد هو المنكر، والآخر مدعيا لأن قول صاحب اليد موافق للظاهر، وقول الآخر مخالف للظاهر، إذ أن الظاهر من حالهما لولا الدعوى أن المتصرف بالملك والذي يكون المال تحت يده يعتبر عند العرف مالكاً، وأما الآخر فلا يعتبر كذلك، فلذا كان الأول منكرا والثاني مدعيا.
وأما ما يترتب على هذين العنوانين من إجراءات قانونية وقضائية، فهو أن المدعي لابد له من إثبات دعواه بدليل، والدليل الذي يقدمه يسمى البيّنة - وسيأتي بيانها -، فإذا قدم دليلا على دعواه حُكم له بها وكسب الدعوى، وأما المنُكِر فلا يحتاج إلى شيء سوى إنكار دعوى المدعي باليمين في حال عدم إثباتها بالبينة، ومع إثبات المدعي لا شيء للمنكر، فقد ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (البينة على من ادعى واليمين على المدعى عليه).[1]
هذا بعض التوضيح لمصطلحين مهمين في مسألة الخصومة والقضاء، وما يترتب عليهما، بعد ذلك لنعد إلى مسألة النواقل الشرعية والأمارات ونحن سنتحدث عن بعض هذه الأمارات والنواقل الشرعية مما له دخل في فهم الصراع الذي كان قائما بين الزهراء (عليها السلام) وخصومها:
الناقل الشرعي الأول: النِحلة:
وقد يعبر عنها بالهبة، والهبة أو النحلة قد تكون لازمة أو غير لازمة، فالأولى - وهي اللازمة - التي لا يمكن الرجوع بها بعد الاقباض، ومن مواردها الأرحام، أبا كان أو أمّاً أو ولداً أو غيرهم، وكذلك لا يمكن الرجوع إذا كانت معوضة أو بعد التلف، أو البيع ونحوه، وبعبارة أخرى بعد التصرف بها من قبل الموهوب له، تصرفا موجبا لذهاب العين.
الناقل الشرعي الثاني: الإرث:
الإرث عبارة عما يحصل عليه الانسان من أعيان أو غيرها من الأموال من المورِّث عند موته بسبب الموت، فهناك وارث وهو من ينتقل إليه المال، ومورِّث وهو الميت الذي له المال، وإرث وهو المال المنتقل إلى الورثة، وتركة وهي المال الذي مات عنه الميت فيقسم على الورثة والميت.
وقد نص القرآن على ذلك من خلال آيات عديدة، فصّلَت كيفية تقسيم الإرث وتوزيعه وطبقات الإرث وغيرها من الأحكام، ومن الآيات التي صرحت بالإرث وانتقال المال قوله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)[2]، والآية (وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)[3]، وغيرها من الآيات الأخرى.
ومن الجدير بالذكر إن هذه الآيات عامة تشمل جميع المسلمين من دون استثناء لأحد من هذا القانون.
أما الأمارات فمنها:
1- اليد: من خلال هذه الأمارة نحكم على أن هذا الشيء ملك لهذا الشخص أو لذاك، فالشارع يقرّ الملكيات الخاصة للأفراد من خلال وضع اليد عليها، هذا في المنقولات، وأما في غير المنقول كالدور والأراضي والعقارات التي لا يمكن وضع اليد عليها فيكون بأمارات وضع اليد، وهي التصرف بها بسائر أنواع التصرفات التي تدل على الملكية.
فلو رأينا شخصا يفتح باب بيت ما ويدخله ويتصرف فيه تصرف المالكين في بيوتهم، فيكفي ذلك للحكم بأنه مالك له.
وهذا الحكم بسبب أن يده عليه حجة، فإن تصرفه في البيت يدل ظاهرا على أن البيت له، ومن ادعى أن هذا البيت ليس لهذا الشخص وأنه لا يملكه، فهو مدع وكلامه خلاف الظاهر وعليه أن يأتي بدليل لإثبات ذلك.
2- الأصل: وهو - كما قلنا - الحكم العدمي السابق على حالة الدعوى، فكل وصف حادث مسبوق بالعدم، فهذا العدم يعتبر أصلاً شرعياً، فمن يكون قوله مطابقاً له يعتبر منكراً، كما تقدم في مثال الدين.
وأما ما يقدمه المدعي من دليل يدعم به دعواه ويكسب به الحكم القضائي الشرعي فهو البيّنة.
3- البَيِّنة: وهي من الأمارات المهمة التي تثبت بها الدعاوى ويحتاج إليها المدعي لإثبات دعواه، وتكون عادة عبارة عن شاهدين من الرجال، ويشترط فيهما جملة من الشروط من أهمها العدالة، وهي الاستقامة على جادة الشريعة وعدم ارتكاب ما حرمه الله أو ترك ما أوجبه، بمعنى عدم الفسق.
وقد ينوب عن أحد الرجال امرأتان فتكون البينة من رجل وامرأتين أو من أربعة نساء، وقد ينوب عن أحد الرجال يمين الشاهد الآخر فتكون البينة من شاهد رجل ويمينه، وهذه البدلية بكل أشكالها تختص بالدعاوي المالية.
إذا عرف كل ما تقدم، نحاول تطبيق ما عرفناه من مفردات على واقعة فدك، فنقول:
الحكم الفقهي لفدك:
إذا ادعى شخص أن المال الذي بيد شخص آخر (ذي اليد) ملكه في حين أن (ذا اليد) قد يكون تملكه للمال بهبة أو إرث أو غير ذلك ففي هذه الصورة يطالب (ذو اليد) ببيّنة على ذلك كما لو ادعى شخص بأن المال الذي بيد شخص آخر (ذي اليد) قد أُوصي به إليه، فالأول مدع والثاني منكر، والقاضي يطلب من المدعي إقامة البيّنة لإثبات مدعاه، على ما عرفناه سابقاً.
وقد تقدم عن الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أعطى فدكا للزهراء (عليها السلام) نحلة منه، بأمر من الله تعالى بعدما نزل قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)[4]، واستمرت في يدها مدة ثلاث سنين تقريبا[5]، تتصرف فيها وتنتفع منها، ثم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ادعى أبو بكر أنها للمسلمين بحديث اختلقه عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فيكون هو المدعي والمنكر هي الزهراء (عليها السلام)، فلابد له من إثبات دعواه بالبينة، ولكنه مع ذلك طالب الزهراء بالبينة، متجاوزا بذلك أحكام الشرع المقدس في أول خلافته، ثم بعد ذلك لم يرض بالبينة.
قال المرحوم الشيخ النائيني ) قدس سره) بأن قضية فدك من صغريات هذا المورد، إذ كانت فدك عند فاطمة (عليها السلام) لسنين عديدة وهي (ذو اليد)، قالت (عليها السلام): فدك نحلة لي، وقد وهبها النبي (صلى الله عليه وآله) لها، ويدّعي أبو بكر - أول مغتصب للخلافة - عن المسلمين جزافاً بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وصّى فدكاً للمسلمين، وحينئذ عليه أن يثبت ذلك بإقامة البيّنة.
قال الإمام علي (عليه السلام) بأنّ فاطمة (عليها السلام) (ذو اليد) وتدّعي أنّ فدكاً نحلة، وعلى أبي بكر أنْ يقيم البيّنة على ادعائه، وقد تمسّك أبو بكر بحديث (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث، ما تركناه صدقة)، في حين أنّ قيد (ما تركناه صدقة) ليس في أصل الحديث، لذا فإنّ الحديث هو: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) والمراد منه أنّ الأنبياء ليسوا أهل دنيا ولا يهتمّون بها وبجمع الأموال ولا يدّخرون شيئاً حتى يتُرك إرثاً، فالحديث يُبرّي ساحة الأنبياء من صفة التعلّق بالدنيا؛ لأنّ ذلك خلاف كونهم مرسلين من قبل اللّه تعالى إذ من هو كذلك لا يهتمّ بالدنيا وبجمع المال وبادخاره، لأنّه مناف لمنصبه وهو قيادة الأُمة ودعوة الناس إلى الآخرة والتنزّه عن الدنيا، ولذا يكون الحديث بهذا الصدد الذي ذكرناه لا أنّه يعني أنّ ما تركوه لا يورّث، ثم إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الأنبياء يورّثون كما في قوله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)[6]، و(هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً)[7] ويدلّ على الإرث قوله تعالى: (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)[8]، لذا فإنّ كلام أبي بكر مخالف لصريح كلام اللّه تعالى في القرآن الكريم.
ثم إنّ فاطمة (عليها السلام) سيدةُ نساء الأوّلين والآخرين، وهي عالمة بكلّ الأحكام الإلهيّة فكيف يجرؤ أبو بكر على هذا الادّعاء.
إنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) طلب من أبي بكر إقامة البيّنة على ادّعائه، لأنّ فدكا بيد فاطمة (عليها السلام)، ثم قال (عليه السلام) لأبي بكر: فيمن نزلت هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)، فيك أم فينا؟ فقال أبو بكر: فيكم، فقال (عليه السلام) له: إذا شهد الشهود فتكون فاطمة (عليها السلام) قد ارتكبت منكراً (والعياذ باللّه) أفتقيم الحدّ عليها؟ فقال أبو بكر: نعم. و... قال الإمام (عليه السلام): إنّك رددت شهادة اللّه تعالى بحقّ فاطمة (عليها السلام)، ونقضت حكم اللّه تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وغصبت فدكا التي كانت بيد فاطمة (عليها السلام) في حياة أبيها (صلى الله عليه وآله) وأنت تعتقد أنّك من المسلمين بعملك هذا، فعليك أنْ تقيم البيّنة، لأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: (البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر)[9].
على من تجب البينّة؟
عندما تعمى البصيرة فإن الاتجاه يكون نحو الهاوية، وتكون المحاولات لتزيين الباطل، واتباع الأهواء، ومجانبة الحق، بل مصارعته، ومحاولة التغلب عليه، كما يسعى أهل الباطل إلى تحسين أعمالهم المنكرة وإظهارها في إطار جميل يخفى على عامة الناس واقعُه المظلم. ومن هذا المنطلق نضع بين يدي القارئ الكريم هذه المحاكمة لما قام به أبو بكر من اختلاق أدلة لدعم حادثة الانقلاب على الأحكام الالهية، فهذا أحد كبار علماء أبناء العامة ينقل هذا المقطع من كلام السيد المرتضى u عند تعرضه لقضية فدك:
قال ابن أبي الحديد المعتزلي (المتوفى سنة 456هـ)، قال المرتضى: نحن نبتدئ فندلّ على أن فاطمة (عليها السلام) ما ادّعت من نحل فدك إلاّ كانت مصيبةً فيه وإن مانعها ومطالبها بالبينة متعنّت، عادل عن الصواب، لأنها لا تحتاج إلى شهادة وبينة.
أمّا الذي يدل على ما ذكرناه فهو أنّها كانت معصومة من الغلط، مأموناً منها فعل القبيح، ومن هذه صفته لا يحتاج فيما يدّعيه إلى شهادة وبينّة.
فإن قيل: دلّلوا على الأمرين.
قلنا: بيان الأول قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)[10]، والآية تتناول جماعة منهم فاطمة (عليها السلام) بما تواترت الأخبار في ذلك، والإرادة ها هنا دلالة على وقوع الفعل للمراد.
وأيضاً، فيدلّ على ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله).[11]
وهذا يدل على عصمتها، لأنّها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذياً له على كلّ حال، بل كان متى فعل المستحق من ذمّها أو إقامة الحدّ عليها - إنّ كان الفعل يقتضيه - سارّاً له ومطيعاً، على أنّا لا نحتاج أن ننبّه في هذا الموضع على الدلالة على عصمتها، بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادّعته، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، لأنّ أحداً لا يشكّ أنها لم تدع ما ادّعته كاذبة، وليس بعد ألاّ تكون كاذبة إلاّ أن تكون صادقة، وإنّما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها تسليم ما ادّعته بغير بينّة أم لا يجب ذلك.
قال: الذي يدلّ على الثاني أن البيّنة إنّما تُراد ليغلبَ في الظن صدقُ المدّعي ألا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات لَمّا كانت مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه، ولهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة، لأنّ علمه أقوى من الشهادة، ولهذا كان الإقرار أقوى من البينّة من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن وإذا قدم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده، فأولى إنّ يقدّم العلم على الجميع، وإذا لم يحتجّ مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي، لا يحتاج أيضاً مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البينات والشهادات.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أيضاً أنه لا خلاف بين أهل النقل في أن أعرابياً نازع النبي (صلى الله عليه وآله) في ناقة، فقال (صلى الله عليه وآله): (هذه لي، وقد خرجت إليك من ثمنها) فقال الأعرابي: من يشهد لك بذلك؟ فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد بذلك، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (من أين علمت وما حضرت ذلك؟) قال: لا، ولكن علمت ذلك من حيث علمت أنّك رسول الله، فقال: (قد أجزت شهادتك، شهادتين فسمي ذا الشهادتين).
وهذه القصة شبيهة لقصة فاطمة (صلى الله عليه وآله)، لأن خزيمة اكتفى في العلم بأن الناقة له (صلى الله عليه وآله)، وشهد بذلك من حيث علم أن رسول الله لا يقول إلاّ حقّاً، وأمضى النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك له من حيث لم يحضر الابتياع وتسليم الثمن فقد كان يجب على من علم أن فاطمة (عليها السلام) لا تقول إلاّ حقاً يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة.
هذا وقد روي أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب بتسليم فدك إليها فاعترض عمر قضيّته وخرّق ما كتبه[12].
[1] وسائل الشيعة: ج27، ص233.
[2] سورة النمل: آية 16.
[3] سورة الأنفال: آية 75.
[4] سورة الإسراء: آية 26.
[5] إذ كانت خيبر في السنة الثامنة للهجرة ومصالحة اليهود مع النبي (صلى الله عليه وآله) على إعطاء فدك في نفس السنة فتكون المدة إلى حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مدة ثلاث سنوات.
[6] سورة النمل: آية 17.
[7] سورة مريم: آية 5 - 6.
[8] سورة النساء: آية 11.
[9] الإمامة والسياسة: ج2، ص207.
[10] سورة الأحزاب: آية 33.
[11] بحار الأنوار: ج30، ص353.
[12] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج16، ص273.