أجاب أمير المؤمنين(عليه السلام) يوماً عن بعض من سأله من المسلمين عن القضاء والقدر.
فقال شخص يوماً لأمير المؤمنين(عليه السلام) يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟
قال(عليه السلام): طريق مظلم لا تسلكه! وبحر عميق لا تلجه.
فقال الرجل مرة ثانية: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟
قال(عليه السلام): سر الله قد خفي عليك فلا تفشه.
فألح الرجل على الإمام(عليه السلام) وأعاد سؤاله.
فقال(عليه السلام): أيها السائل إذا الله خلقك لما شاء أو لما شئت؟
قال: بل لما شاء.
قال: فيستعملك كما شاء أو كما شئت؟
قال: بل كما شاء.
قال(عليه السلام): فيبعثك يوم القيامة كما شاء أو كما شئت؟
قال: بل كما شاء.
قال(عليه السلام): أيها السائل ألست تسأل ربك العافية؟
قال: نعم.
قال(عليه السلام): فمن أي شيء تسأله العافية، أمن البلاء الذي ابتلاك به غيره؟
قال: من البلاء الذي ابتلاني به.
قال(عليه السلام): أيها السائل تقول: لا حول ولا قوة إلا بمن؟
قال: إلا بالله العلي العظيم.
قال(عليه السلام): أفتعلم ما تفسيرها؟
قال: تعلمني مما علمك الله يا أمير المؤمنين؟
قال(عليه السلام): إن تفسيرها، لا تقدر على طاعة الله، ولا تكون لك قوة في معصية، في الأمرين جميعا إلا بالله.
أيها السائل ألك مع الله مشيئة! أو فوق الله مشيئة، أو دون الله مشيئة؟ ـ أي ليس للعبد مشيئة مستقلة دون مشيئه سبحانه، فقال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)[1].
فإن قلت: إن لك دون الله مشيئة فقد اكتفيت بها عن مشيئة الله، وإن زعمت أن لك فوق الله مشيئة فقد ادعيت أن قوتك ومشيئتك غالبتان على قوة الله ومشيئته، وإن زعمت أن لك مع الله مشيئة فقد ادعيت مع الله شركا في مشيئته.
أيها السائل إن الله يشج ويداوي، فمنه الداء ومنه الدواء، فقال تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أعقلت عن الله أمره.
قال: نعم.
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): الآن أسلم أخوكم، فقوموا فصافحوه.
وسأل رجل آخر من أهل الشام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذا الموضوع أيضاً، وكان الرجل ممن قاتل مع الإمام(عليه السلام) بصفين.
فقال الرجل: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء من الله وقدر؟
قال: نعم يا أخا أهل الشام، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً، ولا علونا تلعة، إلا بقضاء من الله وقدر.
فقال الشامي: عند الله تعالى أحتسب عنائي إذا يا أمير المؤمنين، وما أظن أن لي أجراً في سعيي إذا كان الله قضاه عليّ وقدّره لي.
فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): إن الله قد أعظم لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين، ولا عليها مجبرين.
فقال الشامي: فكيف يكون ذلك والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا؟!
فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): ويحك يا أخا أهل الشام! لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله عز وجل والنهي منه، وما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسيء، ولا المسيء أولى بعقوبة المذنب من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدرية ـ القائلون بنفي كون الخير والشر كله بتقدير الله ومشيئته ـ هذه الأمة ومجوسها ـ جاء في (كنز العمال: ج 1، ص121): إن لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي هذه القدرية ـ إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يطع مكرهاً، ولم يعص مغلوباً، ولم يكلف عسيراً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب على العباد عبثاً...
قال الشامي: فما القضاء والقدر اللذان كان مسيرنا بهما وعنهما؟
قال(عليه السلام): الأمر من الله تعالى في ذلك والحكم منه ثم تلا قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا)[2].
فقام الشامي مسروراً فرحاً لما سمع هذا المقال وقال: فرجّت عني يا أمير المؤمنين، فرّج الله عنك.
ثم قال أمير المؤمنين(عليه السلام): لو أن عندي رجلاً من القدرية لأخذت برقبته، ثم لا أزال أجأها حتى أقطعها، فإنهم يهود هذه الأمة ونصاراها ومجوسها.
المصادر: (مناظرات في العقائد والأحكام للشيخ عبد الله الحسن: ج1، ص22)
(ترجمة الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 285).
مجلة اليقين، العدد (70)، الصفحة (8 - 9).