ذكر المفسرون هذه القصة بأساليب مختلفة واختلفوا في سنة وقوعها. (ذو نواس) ملك اليمن أضطهد نصارى نجران قرب اليمن كي يتخلوا عن دينهم. بعد هذه الجريمة نجا من بين النصارى رجل أسمه (دوس) وتوجه إلى قيصر الروم الذي كان على دين المسيح، وشرح له ما جرى، ولما كانت المسافة بين الروم واليمن بعيدة، كتب القيصر إلى النجاشي (حاكم الحبشة) لينتقم من (ذو نواس) لنصارى نجران، وأرسل الكتاب بيد القاصد نفسه.
جهز النجاشي جيشاً عظيماً يبلغ سبعين ألف محارب بقيادة (أرياط) ووجهه إلى اليمن، وكان (أبرهة) أيضاً من قوّاد ذلك الجيش، أندحر (ذو نواس) وأصبح (أرياط) حاكماً على اليمن، وبعد مدة ثار عليه أبرهة وأزاله من الحكم وجلس في مكانه، بلغ ذلك النجاشي، فقرر أن يقمع (أبرهة)، لكن (أبرهة) أعلن استسلامه الكامل للنجاشي ووفاءه له، حين رأى النجاشي منه ذلك عفا عنه وأبقاه في مكانه.
كنيسة لا نظير لها:
و(أبرهة) من أجل أن يثبت ولاءه، بنى كنيسة ضخمة جميلة غاية الجمال، لا يوجد على ظهر الأرض مثلها آنذاك، وقرر أن يدعو أهل الجزيرة العربية لأن يحجوا إليها بدل الكعبة، وينقل مكانة الكعبة إلى أرض اليمن، أرسل أبرهة الوفود والدعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز، يدعوهم إلى حج كنيسة اليمن، فأحس العرب بالخطر لارتباطهم الوثيق بمكة والكعبة ونظرتهم إلى الكعبة على أنها من آثار إبراهيم الخليل (عليه السلام). تذكر بعض الروايات أن مجموعة من العرب جاؤوا خفية وأضرموا النار في الكنيسة وقيل إنهم لوثوها بالقاذورات، ليعبروا عن اعتراضهم على فعل أبرهة ويهينوا معبده.
لِمَ العجلة يا أبرهة؟:
غضب أبرهة وقرر أن يهدم الكعبة هدماً كاملاً، للانتقام ولتوجيه أنظار العرب إلى المعبد الجديد، فجهَّزَ جيشاً عظيماً كان بعض أفراده يمتطي الفيل، واتجه نحو مكة. عند اقترابه من مكة بعث من ينهب أموال أهل مكة، وكان بين النهب مائتا بعير لعبد المطلب. بعث أبرهة قاصداً إلى مكة وقال له: أبحث عن كبير القوم وقل له إن أبرهة ملك اليمن يدعوك. أنّا لم آت لحرب، بل جئت لأهدم هذا البيت، فلو استسلمتم، حقنت دماؤكم.
أنا رب الإبل:
جاء رسول أبرهة إلى مكة وبحث عن شريفها فدلوه على عبد المطلب، فحدثه بحديث أبرهة، فقال عبد المطلب، نحن لا طاقة لنا بحربكم، وللبيت رب يحميه. ذهب عبد المطلب مع القاصد إلى النجاشي، فلما قدم عليه جعل النجاشي ينظر إليه وراقه حسنه وجماله وهيبته، حتى قام من مكانه احتراماً وجلس على الأرض وأجلس عبد المطلب إلى جواره؛ لأنه ما أراد أن يجلس عبد المطلب على سرير ملكة ثم قال لمترجمه اسأله حاجتك. قال عبد المطلب: نهبت إبلي فمرهم بردها علي، فاندهش أبرهة وقال لمترجمه: قل له إنه أحتل مكاناً في قلبي حين رأيته، والآن قد سقط من عيني، أنت تتحدث عن إبلك ولا تذكر الكعبة وهي - الكعبة- شرفك وشرف أجدادك، وأنا قدمت لهدمها. قال عبد المطلب: أنّا رب الإبل، وللبيت رب يحميه. عاد عبد المطلب إلى مكة، وأخبر أهلها أن يلجئوا إلى الجبال المحيطة بها، وذهب هو وجمع معه إلى جوار البيت ليدعو فأخذ حلقة باب الكعبة وأنشد أبياته المعروفة: لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك...
للبيت رب يحميه:
القرآن الكريم يذكر هذه القصة الطويلة في عبارات قليلة قصيرة قارعة، وفي غاية الفصاحة والبلاغة، ويركز على نقاط تساعد على تحقيق الأهداف القرآنية المتمثلة في إيقاظ المتعنتين المغرورين وبيان ضعف الإنسان أمام قدرة الجبار المتعال.
هذه الحادثة تبين أن المعجزات والخوارق لا تستلزم ـ كما ظن بعض ـ وجود النبي(صلى الله عليه وآله) والإمام(عليه السلام)، بل تظهر في كل ظرف يشاء الله تعالى فيه أن تظهر. والهدف منها إظهار عظمة الله سبحانه وحقانية دينه، هذا العقاب العجيب يختلف عما نزل من عقاب على أمم أخرى مثل طوفان قوم نوح، وزلزال قوم لوط وإمطارهم بالحجارة، وصاعقة قوم ثمود، فهذه سلسلة حوادث طبيعية يتمثل إعجازها في حدوثها في تلك الظروف الخاصة.
أما قصة إبادة جيش أبرهة بحجارة من سجيل، ترميها طير أبابيل وليست كالحوادث الطبيعية. تحليق هذه الطيور الصغيرة، واتجاهها نحو ذلك الجيش الخاص ورميه بالحجارة التي تستطيع أن تهشّم أجساد جيش ضخم...كل تلك أمور خارقة للعادة. ولكنها ضئيلة جداً أمام قدرة الله تعالى.
أشد الجزاء بأبسط وسيلة:
يلاحظ أن هذه القصة تتضمن بيان قدرة الله أمام المستكبرين والطغاة على أفضل وجه... ولعل العقاب الذي حل بأبرهة وجيشه لا يبلغه عقاب إذ على أثره تهشّم جيش وتحول إلى عصف مأكول. ثم إن إبادة هذا الجيش الجرار بكل ما كان يمتلكه من قدرة وشوكة كانت بواسطة أحجار صغيرة وبواسطة طيور صغيرة كالخطاطيف. وفي هذا تحذير وإنذار لكل الطغاة والمستكبرين في العالم ليعلموا مدى ضعفهم أمام قدرة الله سبحانه.
وقد يوكل الله سبحانه أداء هذه المهام الكبرى لموجودات أصغر مثل الميكروبات التي لا ترى بالعين المجردة لتتكاثر وتتناسل في مدة وجيزة وتصيب أمماً قوية بالأوبئة المختلفة كالطاعون وتبيدهم خلال مدة قصيرة.
سد مأرب العظيم في اليمن كان وسيلة لعمران كبير ومدينة عظيمة وقوية لقوم سبأ، وحين طغى هؤلاء القوم، جاء أمر إبادتهم عن طريق فأر صحراوي أو عدد من الفئران فثقبت السد وأتسع الثقب تدريجياً بالماء وتحطم السد العظيم، وأكتسح الماء كل ما بناه القوم وأغرق الأفراد أو شردهم إلى كل حدب وصوب متفرقين حيارى، وهذه من مظاهر قدرة الله سبحانه. من جهة أخرى هذه الحادثة أقترنت بولادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانت ممهدة للبعثة المباركة، وإرهاصاً من إرهاصات بزوغ فجر الإسلام.
والقصة من ناحية ثالثة تهديد لكل طغاة العالم، من قريش وغير قريش ليعلموا أنهم لا يستطيعون أبداً أن يقاوموا أمام قدرة الله تعالى فما أجدر بهم أن يعودوا إلى رشدهم ويخضعوا لأمر الله ويستسلموا بالحق والعدل.
ثم هي من جانب رابع تبين أهمية هذا البيت الكبير.
الأعداء الذين استهدفوا هدم الكعبة، ونقل مركزية هذا الحرم الإبراهيمي إلى مكان آخر، قد واجهوا من العذاب ما أصبح عبرة للأجيال وما زاد من أهمية هذا المركز المقدس.
ومن جهة خامسة هذه الحادثة تؤكد مشيئة الله سبحانه في جعل هذا الحرم آمناً استجابة لدعوة إبراهيم الخليل (عليه السلام).
حادثة تاريخية قطعية:
حادثة أصحاب الفيل كانت من الأهمية والشهرة بين العرب بحيث جعلوها مبدأ للتاريخ. والقرآن الكريم بدأ الحديث (أَلَمْ تَرَ) مخاطباً نبيه (صلى الله عليه وآله) الذي لم يرَ هذه الحادثة. وهي دلالة على قطعية وقوع الحادثة. أضف إلى ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) ـ حين تلا هذه الآيات على المشركين ـ لم ينكر عليه أحد، ولو كان أمراً مجهولاً لاعترضوا عليه، ولسجل المؤرخون هذا الاعتراض كما سجلوا سائر الاعتراضات.