عقيدتنا في القضاء والقدر

ذهب قوم - وهم المجبرة[1]- الى انه تعالى هو القاعل لافعال المخلوقين ، فيكون قد اجبر الناس على فعل المعاصي ، وهو مع ذلك يعذبهم عليها ، واجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها ؛ لانهم يقلون : ان افعالهم في الحقيقة افعاله ، وانما تنسب اليه الطبيعة بين الاشياء ، وانه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.

وقد انكروا السببية الطبيعية بين الاشياء ؛ اذ ظنوا ان ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له.

ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم اليه ، تعالى عن ذلك.

وذهب قوم آخرون - وهم المفوضة[2]- الى انه تعالى فوض الافعال إلى المخلوقين، ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أنّ نسبة الأفعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه، وأنّ للموجودات أسبابها الخاصة، وإن انتهت كلُّها إلى مسبِّب الأسباب والسبب الأول، وهو الله تعالى.

ومن يقول بهذه المقالة فقد أخرج الله تعالى من سلطانه[3]، وأشرك غيره معه في الخلق.

واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار عليهم‌السلام من الأَمر بين الأمرين، والطريق الوسط بين القولين، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام، ففرَّط منهم قوم وأفرط آخرون، ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلاّ بعد عدة قرون[4].

وليس من الغريب ممَّن لم يطّلع على حكمة الأَئمّة عليهم‌السلام وأقوالهم أن يحسب أنّ هذا القول - وهو الأمر بين الاَمرين - من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.

فقد قال إمامنا الصادق عليه‌السلام لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: «لا جبر ولا تفويض،ولكن أمر بين أمرين»[5].

ما أجلَّ هذا المغزى، وما أدقّ معناه، وخلاصته: إنّ أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن اسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى، وداخلة في سلطانه؛ لاَنّه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على افعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي؛ لاَنّ لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوِّض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر، وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد[6].

وعلى كل حال، فعقيدتنا : أنّ القضاء والقدر سر من أسرار الله تعالى، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذاك، وإلاّ فلا يجب عليه أن يتكلّف فهمه والتدقيق فيه؛ لئلاّ يضل وتفسد عليه عقيدته؛ لاَنّه من دقائق الأمور، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلاّ الأوحدي من الناس، ولذا زلّت به أقدام كثير من المتكلّمين[7].

 

فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي، ويكفي أن يعتقد به الانسان على الاجمال اتّباعاً لقول الأئمة الأطهار عليهم‌السلام من أنّه أمر بين الأمرين؛ ليس فيه جبر ولا تفويض.

وليس هو من الاصول الاعتقادية حتى يجب تحصيل الاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق.

 

 


[1] ومنهم الاشاعرة الذين ذهبوا الى انكار السببية ، وانحصار السبب في الله تعالى ،وقالوا : ان النار - مثلا - لا تحرق شيئا بل عادة الله جرت على احراق الثوب المماس بها مثلا من دون مدخلية للنار في الاحراق . وبذلك فقد ذهبوا الى ان افعال العباد مخلوقة له تعالى من دون دخل للعباد فيها ، أي أن العبد لا أثر له في ايجاد الفعل . راجع : بداية المعارف الالهية : 1/159 وما بعدها.

ولا يخفى على من تتبع كتب الامامية انهم يبطلون الجبر خلافا للاشاعرة ، كما يبطلون التفويض خلافا للمعتزلة ، فقد روي عن الامام ابي الحسن علي بن محمد الهادي عليه‌السلام انه سئل عن افعال العباد فقيل له : هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال عليه‌السلام : (لو كان خالقا لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه ( إن الله بريء من المشركين ورسوله )[ التوبة 9: 3] ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وانما تبرأ من شركهم وقبائحهم).

لاحظ : تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد : 5/43 ، بحار الانوار: 5/20.

[2] وهم الذين نفوا حقيقة الجبر ، وأكثرهم المعتزلة ممن قالوا أن الفعل مفوض الينا ، ولا مدخلية فيه لا رادته وإذنه تعالى، والذي أوجب هذا الزعم الفاسد هو الاحتراز عن نسبة المعاصي والفكر والقبائح إليه تعالى. والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والاباحة لهم مع ما شاؤوا من الاعمال وهذا قول الزنادقة وأصحاب الاباحات.

راجع: تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: 5/ 47، بداية المعارف الإلهية: 1/ 166.

[3] ومن المستحسن أن نذكر في هذا الصدد ما رواه الاَصبغ بن نباته في حديث طويل: «إنّ شيخاً قام إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام في منصرفه عن صفين فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، ما وطأنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً إلاّ بقضاء الله وقدره، فقال الشيخ: عند الله تعالى احتسب عنائي؛ ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال له عليه‌السلام: مه! أيّها الشيخ! لقد عظّم الله أجركم في مسيركم وانتم سائرون. وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين. فقال الشيخ: فكيف والقضاء والقدر ساقانا؟ فقال عليه‌السلام: ويحك لعلك ظننت قضاءاً لازماً وقدراً حتماً؟ لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والامر والنهي، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن. تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب. وهم قدرية هذه الامة ومجوسها؛ إنّ الله تعالى أمر تخييراً ونهى تحذيراً، وكلّف يسيراً. لم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الرسل عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ( ذَلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفروُا فَوَيلٌ للّذينَ كفَرُوا مِنَ النَّارِ ) [سورة ص 38: 27]. فقال الشيخ: وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاّ بهما؟ فقال عليه‌السلام: هو الأمر من الله تعالى والحكم، وتلى قوله تعالى: ( وَقَضَى ربُّكَ الاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيّاهُ ) [الاسراء 17: 23] فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول:

أنت الامام الذي نرجوا بطاعته     يوم النشور من الرحمن رضوانا

 أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً  جزاك ربّك عنّا منه إحساناً

 شرح نهج البلاغة: 18/227.

وأسند ابن عساكر هذا الحديث عن ابن عباس في تاريخ دمشق: 3/231، وذكره الشيخ الصدوق في التوحيد: 380، تجريد الاعتقاد بتحقيق محمد جواد الحسيني الجلالي: 200، عقائد الاسلام من القرآن الكريم: 455.

[4] قال الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد: 47(والواسطة بين هذين القولين - أي الجبر والتفويض - أنّ الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها، وأمرهم بحسنها، ونهاهم عن قبيحها، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض) مصنّفات الشيخ المفيد المجلد الخامس.

[5] الكافي: 1/160 ح13، الاحتجاج: 2/490، التوحيد: 362، الاعتقادات للشيخ الصدوق: 10، تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: 5/46.

[6] سأل أبو حنيفة الامام أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن أفعال العباد، ممن هي؟ فقال له عليه‌السلام: «إنّ أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل؛ إمّا أن تكون من الله تعالى خاصّة، أو من الله ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصّة. فلو كانت من الله تعالى خاصة لكان أولى بالحمد على حسنها والذم على قبحها ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها. ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معاً فيها والذم عليهما جميعاً فيها، وإذا بطل هذان الوجهان ثبت انها من الخلق، فان عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة».

تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: 5/44.

[7] لخّص الشيخ المظفر في محاضراته الفلسفية هذه الفكرة الدقيقة بقوله: (كلّ من المجبّرة والمفوّضة نظروا إلى جهة وغفلوا عن الجهة الاخرى، ولكن الانسان يجب أن يكون ذا عينين لا ذا عين واحدة، فمن نظر بعين واحدة كان أعور، ينظر إلى إفاضة الوجود من جهة واحده فيتصور أنّ الناس مجبورون، وينظر من الجهة الاخرى وهو أنّ الناس يعملون اعمالهم باختيارهم فيتخيل أنّهم مفوضون، ولكن لو انقطع فيض الله تعالى عني لحظة واحدة لانعدمت وانعدمت أفعالي وأنا أسبح في سلطانه وعظمته.

معنى الجبر: أنّ فاعل ما منه الوجود هو فاعل ما به الوجود، وهو الله تعالى، ومعنى التفويض: أنّ العبد هو فاعل ما به الوجود وما منه الوجود، ولكن القوم لم يلتفتوا إلى هذه النكتة، وهي أنّ العبد فاعل ما به الوجود، والله تعالى فاعل ما منه الوجود، فمن ناحية فاعل ما به الوجود لا جبر، ومن ناحية فاعل ما منه الوجود لا تفويض، فيصحّ في العقل ما جاء في الاثر عن أهل البيت عليهم‌السلام: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»).

الفلسفة الاسلامية: 84.