المؤمنون من خشية ربهم مشفقون

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ).

الخشية: تعني الخوف المقترن بالتعظيم والتقديس، ولا تعني مطلق الخوف.

وكلمة (المشفق) مشتقة من (الإشفاق)، ومن أصل: الشفق، أي: الضياء المخالط للظلمة، وتعني الخوف الممزوج بالمحبة والإجلال.

ولكون الخشية ذات جانب عاطفي، والإشفاق ذا جانب عملي، ذُكرا معا إيضاحا للعلة والمعلول في الآية، فهي تعني أن الخوف المخلوط بتعظيم الله قد استقر في قلوبهم، وقد بدت علائمه في أعمالهم والتزامهم بالتعاليم الإلهية، أي: أن الإشفاق مرحلة تكاملية للخشية، وهو ما يؤثر في عمل الإنسان فيجنبه ارتكاب الذنوب، ويدفعه إلى القيام بمسؤولياته[1].

ومنهم من حمل الخشية على العذاب فالمعنى: الَّذين هم من عذاب ربّهم مشفقون[2].

وقد تسأل: إن الخشية هي الخوف، والإشفاق يتضمن معنى الخوف، أو هو أقصى حدوده ودرجاته كما قيل، وعليه يكون المعنى إنهم خائفون من الخوف، وهو غير مستقيم؟

والجواب: المراد بالإشفاق هنا الحرص على طاعة الله، وتقدير الكلام هكذا: هم يحرصون على طاعته تعالى خوفا من عذابه[3].

فضل الخشية من الله تعالى:

 تحتل الخشية من الله تعالى مركز الصدارة بين السجايا الأخلاقية الكريمة، وكانت له أهمية كبرى في عالم العقيدة والإيمان، بل هي شرط من شروط الإيمان، قال تعالى: (فَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[4].

فالخشية تلهب النفوس، وتحفزها على طاعة الله عز وجل، وتفطمها من عصيانه، ومن ثم تسمو بها إلى منازل المتقين الأبرار.

وكلما تجاوبت مشاعر الخشية والخوف في النفس، صقلتها وسمت بها إلى أوج ملائكي رفيع، يحيل الإنسان ملاكاً في طيبته ومثاليته.

 من أجل ذلك نجد الخائف من الله تعالى يستسهل عناء طاعته، ويستحلي مرارتها، ويستوخم حلاوة المعاصي والآثام، خشية من سخطه وخوفاً من عقابه.

والخشية خُلُق لا يتصف بها إلا عباد الله المتقين، وأوليائه المحسنين: قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[5].

وقال تعالى: (الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[6].

والخشية من خصائص الأولياء، وسمات المتقين، والباعث المحفّز على الاستقامة والصلاح، والوازع القوي عن الشرور والآثام لذلك أولته الشريعة عناية فائقة، واثنت على ذويه ثناءً عاطراً مشرفاً، قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)[7]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[8]، وقال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[9].

وقد وصف الله بها عبادة المؤمنين الصالحين فقال: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)[10].

 والخوف من الله تعالى له أثر تربوي عظيم على الإنسان المؤمن وله دور كبير في صلاحه كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفاً، ولا يصلحه إلا الخوف)[11].

 وقال (عليه السلام): ((لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو))[12].

وقال (عليه السلام): ((خف الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين إليك))[13].

 وقال بعض الحكماء: مسكين ابن آدم، لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعاً، ولو رغب في الجنة كما رغب في الدنيا لفاز بهما جميعاً، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً.

 ثمار الخشية من الله:

إن ثمارَ هذه الخشية بيِّنة، وإن آثارها ظاهرة، فإنها باعث على إخلاص العمل لله تعالى والاستدامة عليه، وطريقٌ إلى العزَّة التي كتبها الله لعباده المؤمنين، وسبيلٌ إلى صيانة النفس عن الذل، وداع إلى التحلي بمحاسن الأخلاق والنفرة من مساوئها، وسببٌ للسعادة في الدارين، وقائدٌ إلى الأمن من الفزع الأكبر وإلى الفوز بالجنة والنجاة من النار، ومن آثارها:

1- الهداية والصلاح: قال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)[14].

2- الفوز والفلاح: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[15].

3- المغفرة والأجر الكبير: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[16].

5- دخول الجنة والنجاة من النار: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)[17].

وقال سبحانه: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[18].

الخوف بين المد والجزر :

لقد صورت الآيات الكريمة، والأخبار الشريفة، أهمية الخوف، وأثره في تقويم الإنسان وتوجيهه وجهة الخير والصلاح، وتأهيله لشرف رضا الله تعالى وإنعامه، بَيد أن الخوف كسائر السجايا الكريمة، لا تستحق الإكبار والثناء، إلا إذا اتسمت بالقصد والاعتدال، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

فالإفراط في الخوف يجدب النفس، ويدعها بعيدة عن الرجاء، ورونقه البهيج، ويدع الخائف آيساً، ومرهقاً نفسه في الطاعة والعبادة حتى ينهكها.

 والتفريط فيه باعث على الإهمال والتقصير، والتمرد على طاعة الله تعالى وإتباع دستوره، وبتعادل الخوف والرجاء تنتعش النفس، ويسمو الضمير، وتتفجر الطاقات الروحية، للعمل الهادف البنّاء، كما قال الصادق (عليه السلام): (كان فيما أوصى به لقمان لابنه أن قال: يا بني خف الله خوفا لو جئته ببر الثقلين خفت أن يعذبك الله، وارجُ الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر الله لك)[19].

مجلة بيوت المتقين العدد (9)

 


[1] الأمثل 10/469.

[2] تفسير مقتنيات الدرر 7/289.

[3] الكاشف 5/376.

[4] سورة التوبة: 13.

[5] سورة الأنفال:2.

[6] سورة الزمر:23.

[7] فاطر: 28.

[8] الملك:12.

[9] النازعات:40 ـ 41.

[10] سورة فاطر:18.

[11] الوافي ج3 ص57.

[12] الوافي ج 3 ص 57.

[13] الوافي ج 3 ص 57.

[14] سورة التوبة: 18.

[15] سورة النور:52.

[16] سورة الملك:12.

[17] سورة البينة:7-8.

[18] سورة ق:33-35.

[19] أمالي الصدوق ج5 ص531.