نستطيع القول إن الروح والمادة عالمان لكل منهما مقومات ونتائج، فكما يحتاج أحدهما إلى غذاء وصحة وقوة كذلك يحتاجها الآخر أيضاً، وكما نشعر في عالم المادة بالمرض والتعب والإعياء، كذلك يحدث في عالم الروح، وكما أن لعالم المادة نتائج ومعطيات تظهر في سلوك الفرد، كذلك لعالم الروح ما يقابل تلك المعطيات والنتائج.
وكما أن الأبدان تعطش وتجوع وتحتاج إلى الماء والغذاء، وأن الأرض يصيبها القحط والجَدْب وتحتاج إلى ماء المطر كي تنبت ما عليها، وتؤتي أكلها كلَّ حين، كذلك روح الإنسان والمجتمعات تعطش وتحتاج إلى من يروي ضمأها... وأدنى التفات إلى واقعنا اليوم يظهر منه كم يعاني مجتمعنا من جفاف نفسي ومن عطش شديد ليس للماء، لكن للمعنويات والروحيات... فطغيان المادة، والانشغال بأمور الحياة، والتطورات السريعة التي تمر بها مجتمعاتنا على جميع الأصعدة، عوامل جعلت المجتمع يبتعد شيئاً فشيئاً عن المنابع الروحية التي تسدّ حاجته، تلك المنابع التي كانت يوماً ترمي بظلالها على سلوكياتنا - كمجتمع إسلامي - فلا يألف أحدُنا القلق النفسي، ولا يتفاعل مع حالة اكتئاب، ولا تجد العزلة بين الأخ وأخيه، أو بين أفراد العائلة الواحدة، لها سبيلاً كما يحصل في مجتمعات أخرى.
وهذا الفراغ الروحي الذي يجد له مكاناً في نفوسنا اليوم يتجلى بأظهر أمثلته في السلوك، في عدم التفاعل مع العبادات كالصلاة، والدعاء وقراءة القرآن، حتى صارت هذه العلاقة مع الله تعالى عاداتٍ يومية تؤدّى - إذا دون روح، بمجرد الحفاظ على شكلها الخارجي دون التفاعل الوجداني.
ولذا نحن بحاجة إلى عودة ورجوع إلى ذاتنا، لملء الفراغ الروحي، ولنكون في موقف القوّة في مجاهدة أنفسنا، فقد ورد أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعث سرية، فلما رجعوا قال: «مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس»[1].
ولكي يوازن الإنسان بين الجانب الروحي وبين بقية اتجاهاته وميوله، يستطيع أن يتّبع بعض الأمور النافعة في طريق خلق الاتزان، منها:
1- العلاقة مع القرآن الكريم والدعاء، لابدّ أن يقضي كل منّا بعضاً من الوقت في قراءة بعض الآيات وهو عمل حثَّ عليه القرآن الكريم، فمنه قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)[2]، وأما الدعاء فمنه قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...)[3]، هذا وليس من الصعب التعامل مع الأدعية في كل ليلة خصوصاً أدعية الصحيفة السجادية.
2- أن يألف الفرد حضور المساجد لأداء الصلاة جماعة، فإن في ذلك ثمرات روحية مستمرة، فحينما يجتمع المسلمون في صلاة واحدة تتعزز الحالة الدينية في نفس كلّ واحد منهم، كما أنه من طبيعة الإنسان أنه عندما يرى عملاً جماعياً يتولّد في نفسه دافعٌ للقيام بهذا العمل.
3- حضور مجالس العلماء والمؤمنين الصالحين، فإن فيها الكلمة الطيبة، والذكر الجميل، روي عن رسول الله: «النَّظَرُ إلى وَجهِ العالِمِ عِبادَةٌ»[4]، وفي حديث آخر يقول: «هُوَ العالِمُ الّذي إذا نَظَرتَ إلَيهِ ذَكَّرَكَ الآخِرَةَ»[5].
ومن ذلك الصديق الذي ينير قلبك بأخلاقه، والذي يكون لحديثه أثره في نفسك.
4- خلْق أجواء روحية في المنزل، ونحن بحاجة ماسة لهذه الفقرة، لأن الأسرة هي المنبع الأول لتطلعات الفرد، فليكن لصوت القرآن وقتاً تتزين به أرجاء المنزل فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنّ «البَيتُ الَّذي يُقرَأُ فيهِ القُرآنُ ويُذكَرُ اللّه ُ عز وجل فيهِ تَكثُرُ بَرَكَتُهُ، وتَحضُرُهُ المَلائِكَةُ، وتَهجُرُهُ الشَّياطينُ، ويُضيءُ لِأَهلِ السَّماءِ كَما تُضيءُ الكَواكِبُ لِأَهلِ الأَرضِ. وإنَّ البَيتَ الَّذي لا يُقرَأُ فيهِ القُرآنُ ولا يُذكَرُ اللّه ُ عز وجل فيهِ تَقِلُّ بَرَكَتُهُ، وتَهجُرُهُ المَلائِكَةُ، وتَحضُرُهُ الشَّياطينُ»[6].
5- مراجعة النفس والنظر في المسافة التي تبعدنا عن الله، لنقطع تلك المسافات وتلك الحالة الخالية من لذة الذكر، علينا أن ننتصر على أنفسنا بالإرادة والعزم على القرب من الخالق الودود، الرحمن الرحيم، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد.
المصدر: مجلة ولاء الشباب العدد (36)