أهل البيت (عليهم السلام) لم تكن الدنيا همهم ولا جمع الأموال سعيهم ولا بناء القصور دأبهم، بل على العكس من ذلك تماماً، فهذه سيرتهم أمام الجميع، لم تشغلهم الدنيا عن الآخرة، ولم تشكل الأموال عندهم رقما، بل كانوا يؤثرون الآخرين على أنفسهم، وهذا أوضح من الشمس في رابعة النهار.
والقرآن الكريم يصرح بهذا المعنى في العديد من آياته، وكذلك أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرته الدالة على ذلك.
لكن هناك من لا يرى النور، بل أشد من ذلك هناك من هو ليس له القابلية أن يرى ويبصر، هؤلاء وغيرهم يحاولون ذر الرماد في العيون، وإثارة الغبار، وحجب ضوء الشمس، وأنى لهم ذلك قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[1].
نعم، يحاولون أن ينشروا الأباطيل ويشوهوا صورة الحقيقية بإثارة التشكيك وبعض التساؤلات حول مواقف أهل البيت (عليهم السلام) ومنها قضية فدك.
هناك من يقول: إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما بايعه المسلمون بعد نقمتهم على عثمان وثورتهم عليه، خطب بهم وصرح بأنه سيعمل على إرجاع الحقوق إلى أصحابها، فلأحد أن يسأل ويقول إذا كان هذا منهج الإمام علي (عليه السلام)، فلماذا لم يرجع فدكا إلى ورثة الزهراء، إذا كانت هي من حقها؟
ونحن ننقل جواب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك في كتابه (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف (عامله على البصرة) إذ جاء فيه: (... بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْه السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، ونِعْمَ الْحَكَمُ اللَّه، ومَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وغَيْرِ فَدَكٍ، والنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ، تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِه آثَارُهَا...)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإمام (عليه السلام) يتبع النبي (صلى الله عليه وآله) في كل صغيرة وكبيرة، ويجعل سيرته نُصب عينه، لذا نجد أن النبي (صلى الله عليه وآله) ترك داره التي باعها عقيل ولم يرجعها حيث ورد عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (... إنا أهل بيت لا نسترجع ما أُخِذ منا في الله عز وجل) ، وفي حديث أخر عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إنا أهل بيت لا نسترجع شيئا يؤخذ منا ظلما).[2]
فكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، لم يشأ إرجاع ما أخذ منه ظلماً اتّباعا للنبي (صلى الله عليه وآله).
أو كما قال الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) عندما سُئل عن عدم إرجاع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فدكا: (لان الظالم والمظلوم كانا قدما على الله عز وجل، وأثاب الله المظلوم، وعاقب الظالم، فَكَرِه أن يسترجع شيئا قد عاقب الله عليه غاصبه وأثاب عليه المغصوب).[3]
فالإمام والزهراء (عليهما السلام) لم تكن مطالبتهم بفدك المادية، كلا وألف كلا، إنما كانت فدك تمثل رمزا لعنوان إلهي أقرّه النبي (صلى الله عليه وآله) وخطط له وأعلنه صراحة على مسامع المسلمين في عدة أماكن ومواقف منها غدير خم وقبله وبعده كما في رزية يوم الخميس ـ كما عبر عنه بن عباس ـ فكان (صلى الله عليه وآله) يظهر هذا الأمر ويشير إليه بأدنى مناسبة.
لقد أدرك أصحاب السقيفة وأعوانهم سر مطالبة الزهراء (عليهم السلام) ونهضتها، لذلك عمدوا إلى وضع واختلاق حديث (ما تركناه صدقة) لدعم مؤامراتهم الخبيثة، لكنهم لم يدركوا أن نور الله لا يطفأ والحق لا يصرع، فصدعت بنت النبوة وكشفت أقنعة الباطل، وأزاحت الظلمة بنور الحق.
فمسألة فدك وسيلة لفضح المؤامرة والانقلاب والإعلان بأن هذه السلطة لا تمثل الخلافة الإسلامية ولا تملك الأهلية لقيادة الأمة.
وأما عزوف الأئمة وتركهم المطالبة بفدك لعلمهم (عليهم السلام) أن أئمة الجور آنذاك لا يعيدون حقوق أهل البيت، وإنهم يخشون أن تعرف العامة مكانة أهل البيت مما يزلزل عروشهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن إرجاعها إلى أهل البيت (عليهم السلام) يمثل مصدر قوة اقتصادية مما يؤدي بدوره إلى التفاف الناس حولهم، وهذا ما تخشاه السلطة الغاصبة للخلافة.
ونلاحظ هذا جلياً في موقف هارون العباسي من الإمام الكاظم (عليه السلام) فقد ورد في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): عن سفيان بن نزار، قال: (كنت يوما على رأس المأمون فقال:... ولقد حججت معه سنة، فلما صار إلى المدينة تقدم إلى حجابه، وقال: لا يدخلن علي رجل من أهل المدينة ومكة من أبناء المهاجرين والأنصار وبني هاشم وسائر بطون قريش إلا نسب نفسه، فكان الرجل إذا دخل عليه قال: أنا فلان بن فلان، حتى ينتهي إلى جده من هاشمي، أو قرشي، أو مهاجري، أو أنصاري، فيصله من المال بخمسة آلاف درهم، وما دونها إلى مائتي دينار، على قدر شرفه، وهجرة آبائه، فأنا ذات يوم واقف، إذ دخل الفضل بن الربيع، فقال: يا أمير المؤمنين، على الباب رجل زعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، فأقبل علينا ونحن قيام على رأسه، والأمين والمؤتمن وسائر القواد فقال: أحفظوا على أنفسكم، ثم قال لآذنه: ائذن له، ولا ينزل إلا على بساطي. فأنا كذلك إذ دخل شيخ مسخد[4] قد أنهكته العبادة، كأنه شن بال، قد كلم[5] السجود وجهه وأنفه، فلما رأى الرشيد رمى بنفسه من حمار كان راكبه، فصاح الرشيد: لا والله إلا على بساطي، فمنعه الحجاب من الترجل، ونظرنا إليه بأجمعنا بالإجلال والإعظام، فما زال يسير على حماره حتى صار إلى البساط، والحجاب والقواد محدقين به، فنزل، فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط وقبل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس، وأجلسه معه فيه، وجعل يحدثه، ويقبل بوجهه عليه، ويسأله عن أحواله، ثم قال له: يا أبا الحسن، ما عليك من العيال؟
فقال: يزيدون على الخمسمائة، قال: أولاد كلهم؟
قال: لا، أكثرهم موالي وحشم، فأما الولد فلي نيف وثلاثون: الذكران منهم كذا، والنسوان منهم كذا، قال: فلم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟
قال: اليد تقصر عن ذلك، قال: فما حال الضيعة؟
قال: تعطي في وقت، وتمنع في آخر، قال: فهل عليك دين؟
قال: نعم، قال: كم؟ قال: نحوا من عشرة آلاف دينار، فقال هارون العباسي: يا بن عم، أنا أعطيك من المال ما تزوج به الذكران والنسوان، وتقضي الدين، وتعمر الضياع، فقال له: وصلتك رحم يا بن عم، وشكر الله لك هذه النية الجميلة، والرحم ماسة، والقرابة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبي (صلى الله عليه وآله)، وصنو أبيه، وعم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك، وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك، وأعلى محتدك، فقال: أفعل ذلك يا أبا الحسن وكرامة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل قد فرض على ولاة عهده أن ينعشوا فقراء الأمة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى العاني، وأنت أولى من يفعل ذلك، فقال: أفعل يا أبا الحسن، ثم قام، فقام الرشيد لقيامه، وقبل عينيه ووجهه، ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن، فقال: يا عبد الله، ويا محمد، ويا إبراهيم، بين يدي عمكم وسيدكم، خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه، وشيعوه إلى منزله، فأقبل أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة وقال لي: إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى ولدي، ثم انصرفنا، وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الرجل الذي قد عظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟ قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقلت: يا أمير المؤمنين، أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟! فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني، إنه لأحق بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) مني، ومن الخلق جميعا، ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم، فلما أراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار، ثم أقبل على الفضل بن الربيع، فقال له: اذهب بهذه إلى موسى بن جعفر (عليهما السلام) وقل له: يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيقة، وسيأتيك برنا بعد هذا الوقت، فقمت في صدره فقلت: يا أمير المؤمنين، تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، وبني هاشم، ومن لا يعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار إلى ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مائتي دينار؟! أخس عطية أعطيتها أحدا من الناس. فقال: اسكت لا أم لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم).[6]
فترى أن هارون يصرح بخشيته من وجود الأموال لدى الأئمة (عليهم السلام)، ويعطي لأولاده من بعده للتعامل مع أهل البيت منهجاً وسياسة لحماية ملكهم ودوامه.
واليك موقف آخر لحفيد الزهراء (عليها السلام) مع الطاغية هارون عندما طلب منه هارون أن يحد له فدك ليرجعها بزعمه فرفض الإمام (عليه السلام)، فألح عليه الطاغية، فأخبره الإمام (عليه السلام) أنه لا يقبلها إلا بحدودها، وأنه إذا عرف حدودها لا يرجعها، فقال هارون: سأفعل، لكنه خالف قوله ولم يلتزم به كسائر الظلمة والطغاة، وسيأتي تفصيل الرواية لاحقا.
فهذه فدك وهذه حقيقتها.
ومن هذا كله يتضح موقف الأئمة (عليهم السلام) من فدك وكذلك يتجلى سر عدم إرجاع الطغاة فدكاً إلى الأئمة من أهل البيت مباشرة.
هناك عدة من الشواهد التاريخية تؤكد أن فدكاً تمثل قضية ذات أبعاد سياسية حتى عند غاصبي الخلافة، فتجد أن أحدهم يعيدها إلى أولاد فاطمة - دون الإمام (عليه السلام) - ويأتي الأخر يسلبها بسبب موقفهم منه أو ثورتهم وقيامهم ضده، فمثلا تلاحظ أن الحاكم العباسي (أبو العباس السفاح) يعيد فدكا إلى عبد الله بن الحسن - مع وجود الإمام الصادق (عليه السلام) - ثم يأتي من بعده مباشرة (أبو جعفر الدوانيقي) فينتزعها من بني الحسن، لأنهم ثاروا عليه.