امتازَ بعضُ الرِّجالِ وعلى طولِ خطِ البشريةِ بعضِ الامتيازاتِ الإيمانيةِ العاليةِ التي جعلتهم في مصافِّ الرجالِ الأوائلِ في العقيدةِ والإِخلاصِ للهِ تعالى، وكان في مقدمةِ أولئك الرجال بالدرجة الأولى الأنبياء والمرسلون(عليهم السلام)، بَعْدَ أَنْ شَرَطَ الله تعالى عليهم الزُّهْدَ في دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَزُخْرُفِها وَزِبْرِجِها، فكانوا ثابتي القول والقدم عند شروطِهم، بوفائِهم وإيمانِهم وإخلاصِهم، فأهْبَطَ عَلَيْهِم مَلائِكَتَهُ، وَكَرَّمهُمْ بِوَحْيهِ، وَرَفَدهُمْ بِعِلْمهِ، وَجَعَلهم الذَّريعَةَ إِليهِ، وَالْوَسيلَةَ إِلى رِضْوانهِ، ولم تقتصر مسيرةُ الإيمانِ والإِخلاصِ على الرجالِ دونَ النساءِ، بل برزت هنالك نساءٌ إلهياتٌ، قد انتخبهُنَّ اللهُ تعالى لمهمةِ رساليةِ عاليةِ لا تقلُّ بهدفها عن مهمةِ الرجالِ، وتأتي مولاتنا الزَّهراء(عليها السلام) في طليعة أولئك النسوة الطواهر، وأيضاً هناكَ بعضُ النساءِ الرساليات اللاتي برزنَ في الساحةِ الإيمانيةِ بشكل ملحوظ، وقد حفرنَ أسماءهن في سجل الخالدين، ومن بين أولئك النساء المخلصات هي مولاتنا فاطمة بنت حزام الكلابية، والملقبة بأم البنين(عليها السلام)، التي شكّلت ظلاً وخلفاً لمولاتنا الزهراء (عليها السلام) في رعايتها وتربيتها وإخلاصها لبيت أمير المؤمنين (عليه السلام)، بدءاً من أول دخولها في ذلك البيت الطاهر، وطلبها من أميرِ المؤمنين(عليه السلام) بمناداتِها بأُم البنين(عليها السلام) وليسَ فاطمة، لأن ذلكَ الاسمَ يُهيّجُ الأَحزانَ على أولادِ الزَّهراءِ(عليها السلام).
وليسَ ثمة مُغالاةٍ إذا قلنا إنّ أُمَّ البنين(عليها السلام) كانت ذات رسالةٍ إلهيةٍ عظيمةٍ، عندما شمّرت عن ساعديها، ونهضت بخدمتها ووفائها وإخلاصها لأمير المؤمنين (عليه السلام) ولأولاده(عليهم السلام)، وبهذا الشرف قد حَصَلت على مقاماتٍ رفيعةٍ عند الله جل وعلا وعند أهل البيت(عليهم السلام)، ومن أهم تلك المقامات هو مقام الرضوان الإلهي، وهو من المقاماتِ الرفيعة التي لا ينالها إِلّا ذو حظٍ عظيمٍ، قالَ تعالى: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة: 72، وروي أن الإمامَ الحُسينِ(عليه السلام) قال في إِحدى خُطبهِ: «رِضَى اللهِ رِضَانَا أَهْل البَيْتِ»[1]، ومن المعلومِ جدّاً أنّ أُمَ البنين(عليها السلام) قد حازتْ رِضا أَهلِ البيتِ (عليهم السلام).
هكذا هي أُم البنينِ(عليها السلام) بإيمانِها وعقيدتِها ووفائِها لآلِ محمدٍ(صلى الله عليه وآله)، فهي بحقٍ رمزٌ للعقيدةِ والوفاءِ.
المصدر: مجلة اليقين العدد (35)، الصفحة (11).