الجَبرُ في اللّغة: الإكراه على الشيء، تقول: جبّرته وأجبرته على فعل إذا أكرهته عليه والمراد به: جبر الله عباده على الأفعال والأعمال بمعنى إيجاده إيّاها من غير أن يكون لهم مدخلٌ فيها كما هو مذهب الأشاعرة.
والقَدَر: بالتحريك والتسكين يطلق على معان:
منها: ما سبق به علمه تعالى، ومنها: تقدير الأشياء بما لا يزيد ولا ينقص، ومنها القدرة، ومنها الوقت، وقد فسّر بهذه المعاني في قوله تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[1]، وقوله تعالى: (إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنْ الْغَابِرِينَ)[2] أي أخبرنا بذلك وكتبناها في اللّوح المحفوظ.
ومنها: وضع الأشياء في مواضعها من غير زيادة فيها ونقصان، كما في قوله تعالى: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)[3].
ومنها: التبيين لمقادير الأشياء وتفاصيلها، وهذه المعاني الثلاثة ذكرها شارح كشف الحقِّ وغيره وإن دخل بعضها في السوابق،
ومنها: إقداره تعالى عباده على أعمالهم على وجه الاستقلال بحيث يخرجهم ذلك عن رِبقة الانقياد له ويبطل تصرّفه في تلك الأعمال حتّى لا يكون لقضائه وإرادته وقدرته وتدبيره مدخل فيها، والقدر بهذا المعنى وهو المسمّى بالتفويض أيضاً هو المراد هنا وهو مذهب طائفة من المعتزلة ونحن نسمّيهم تارة بالقدريّة وتارة بالمفوّضة، وهاتان الفرقتان وهما الجبريّة والقدريّة خارجتان عن طريق العدل أولاهما في طرف الإفراط واُخراهما في طرف التفريط،
والمراد بالأمر بين الأمرين: أمر لا هذا ولا ذاك بل طريق متوسّط بينهما وهو أنَّ أفعالهم بقدرتهم واختيارهم مع تعلّق قضاء الله وقدره وتدبيره ومشيئته وإرادته وتوفيقه ولطفه وخذلانه بها، وهذا التعلّق لا ينافي اختيارهم لأنَّ القضاء والقدر والإرادة وغيرها على قسمين: حتم وغير حتم، والمنافي للاختيار هو الحتم دون غيره، وستعلم وجه بطلان الأوَّلين وتحقّق الثالث في مضامين الأحاديث الآتية، وينبغي أن يعلم أنَّ القدريّة قد تطلق على الجبريّة بناء على أنَّ القدر جاء بمعنى الجبر أيضاً والقدر بهذا المعنى أيضاً مذكور في هذا الباب، وإنّما بسطنا الكلام طلباً للبصيرة فيما هو المقصود في هذا المقام، ثم إننا نورد بعض الروايات مع شرح بعض منها.
1- عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ زَعْلَانَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ الْقُمِّيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (قُلْتُ أَجْبَرَ الله الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَفَوَّضَ إِلَيْهِمُ الأَمْر؟َ قَالَ: لَا، قَالَ قُلْتُ: فَمَا ذَا؟ قَالَ: لُطْفٌ مِنْ رَبِّكَ بَيْنَ ذَلِكَ).
2- عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ عِدَّةٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (قَالَ لَه رَجُلٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَجْبَرَ الله الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؟ فَقَالَ: الله أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَفَوَّضَ الله إِلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ فَقَالَ: لَوْ فَوَّضَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَحْصُرْهُمْ بِالأَمْرِ والنَّهْيِ، فَقَالَ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَبَيْنَهُمَا مَنْزِلَةٌ؟ قَالَ فَقَالَ: نَعَمْ أَوْسَعُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ)[4].
3- عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): (قَالا: إِنَّ الله أَرْحَمُ بِخَلْقِه مِنْ أَنْ يُجْبِرَ خَلْقَه عَلَى الذُّنُوبِ ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا والله أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَمْراً فَلَا يَكُونَ، قَالَ: فَسُئِلَا (عليهما السلام) هَلْ بَيْنَ الْجَبْرِ والْقَدَرِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ؟ قَالا: نَعَمْ أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ)[5].
4- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَمَّنْ حَدَّثَه عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (لَا جَبْرَ ولَا تَفْوِيضَ ولَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، قَالَ قُلْتُ: ومَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؟ قَالَ: مَثَلُ ذَلِكَ رَجُلٌ رَأَيْتَه عَلَى مَعْصِيَةٍ فَنَهَيْتَه فَلَمْ يَنْتَه فَتَرَكْتَه فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ، فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَرَكْتَه كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَه بِالْمَعْصِيَةِ) [6].
الشرح:
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لَا جَبْرَ) على العباد حتّى لا يكون لهم قدرة على أفعالهم أصلاً (ولَا تَفْوِيضَ) حتّى تكون أفعالهم بقدرتهم ولا يكون لهم زاجر أصلاً (ولَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، قَالَ قُلْتُ: ومَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؟ قَالَ: مَثَلُ ذَلِكَ رَجُلٌ رَأَيْتَه عَلَى مَعْصِيَةٍ فَنَهَيْتَه) عنها (فَلَمْ يَنْتَه فَتَرَكْتَه) بحاله وما زجرته عنها جبراً وقهراً (فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ) بقدرته واختياره (فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَرَكْتَه) مع قدرتك على زجره عنها جبراً (كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَه بِالْمَعْصِيَةِ) أي: إنك لمّا منعته عنها بالزَّواجر والنصائح فلم ينته تركته وما منعته منعاً يوجب تركه ما أجبرته عليها ولا فوضته، كذلك صنع الله بالنسبة إلى أفعال العباد فهذا أمر بين أمرين، وينقل لنا هذا المعنى الشيخ الصدوق (أعلى الله مقامه) في كتاب عيون أخبار الرِّضا(عليه السلام): عن أحمد بن علي الأنصاري عن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي قال: (دخلت على علي بن موسى الرضا بمَرو فقلت له: يا بن رسول الله رُوي لنا عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: إنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين فما معناه؟ قال: من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر، ومن زعم أن الله عز وجل فوّض أمر الخلق والرزق إلى حُجَجِه E فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك، فقلت له: يا بن رسول الله فما أمرٌ بين أمرين؟
فقال: وجود السبيل إلى اتيان ما أُمروا به وترك ما نُهوا عنه، فقلت له: فهل لله عز وجل مشيئة وإرادة في ذلك؟ فقال: فأما الطاعات فإرادة الله ومشيئته فيها الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها، قلت: فهل لله فيها القضاء؟ قال: نعم ما مِن فِعلٍ يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء، قلت: ما معنى هذا القضاء؟ قال: الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة)[7].
5- عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ الله خَلَقَ الْخَلْقَ - فَعَلِمَ مَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْه - وأَمَرَهُمْ ونَهَاهُمْ فَمَا أَمَرَهُمْ بِه مِنْ شَيْءٍ فَقَدْ جَعَلَ لَهُمُ السَّبِيلَ إِلَى تَرْكِه ولَا يَكُونُونَ آخِذِينَ ولَا تَارِكِينَ إِلَّا بِإِذْنِ الله)[8].
الشرح:
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إِنَّ الله خَلَقَ الْخَلْقَ) مستعدِّين للخير والشرِّ لِحكَمٍ ومصالح بعضها يظهر لأولي الألباب وبعضها لا يعلمها إلّا هو، وأسرار القدر الّتي ورد النهيُّ عن الغور فيها داخلة في هذا البعض (فَعَلِمَ مَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْه) من الخير والشرِّ، ولكن الغرض الأصلي من خلقهم هو الخير كما يدلُّ عليه ما رواه الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين سأله الزَّنديق وقال له: (فخَلَق الخَلْق للرَّحمة أم للعذاب؟ فقال(عليه السلام) خَلَقهم للرَّحمة، وكان في عِلمه قبل خلقه إيّاهم، أنَّ قوماً منهم يصيرون إلى عذابه بأعمالهم الرَّديّة وجحدهم به)[9].
ثم قال (عليه السلام) (وأَمَرَهُمْ) بالخيرات والمصالح (ونَهَاهُمْ) عن الشرور والقبائح (فَمَا أَمَرَهُمْ بِه مِنْ شَيْءٍ فَقَدْ جَعَلَ لَهُمُ السَّبِيلَ إِلَى تَرْكِه) وكذا ما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى فعله، وذلك لإعطائهم القدرة الصالحة للضدَّين والقوَّة القابلة للطرفين، ومعنى القدرة أي لهم القدرة على الفعل والترك إن شاء أن يفعل فعل وإن شاء أن يترك ترك، فلو فرضنا قدرة أنحصر تعلّقها بأحد الطرفين فقط دون الآخر لم يكن الموصوف بها قادراً (ولَا يَكُونُونَ آخِذِينَ ولَا تَارِكِينَ إِلَّا بِإِذْنِ الله) أي بتوفيقه لمن أقبل وعدمه لمن أدبر، أو بعدم إحداثه مانعاً من الأخذ والترك، أو بخلق القدرة عليهما، أو بعلمه بهما، أو بتخليته، ويؤيّد الأخيرين ما رواه الشيخ الطبرسي (قدس سره) في كتاب الاحتجاج عن عليِّ بن محمد العسكري (عليهما السلام) أنَّ أبا الحسن موسى (عليه السلام) قال: (إن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون فأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بأذنه، وما جبر الله أحدا من خلقه على معصيته، بل اختبرهم بالبلوى وكما قال: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً))[10].
وفي ما أوردناه دلالة على أنَّ أفعالهم بقدرتهم واختيارهم وأنَّ علمه الأزلي بها لا يستدعي أن لا يكون لهم قدرة واختيار وهو لا يوجب شيئاً عليهم.
أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ أبِقَضَاءٍ مِنَ الله وقَدَرٍ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ وإِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ وغَيْرِهِمَا رَفَعُوه قَالَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) جَالِساً بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِه مِنْ صِفِّينَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْه ثُمَّ قَالَ لَه: (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ أبِقَضَاءٍ مِنَ الله وقَدَرٍ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَجَلْ يَا شَيْخُ مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً ولَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ الله وقَدَرٍ، فَقَالَ لَه الشَّيْخُ: عِنْدَ الله أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَه: مَه يَا شَيْخُ، فَوَالله لَقَدْ عَظَّمَ الله الأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وأَنْتُمْ سَائِرُونَ وفِي مَقَامِكُمْ وأَنْتُمْ مُقِيمُونَ وفِي مُنْصَرَفِكُمْ وأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ ولَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ - مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ، فَقَالَ لَه الشَّيْخُ: وكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِنَا مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ وكَانَ بِالْقَضَاءِ والْقَدَرِ مَسِيرُنَا ومُنْقَلَبُنَا ومُنْصَرَفُنَا؟ فَقَالَ لَه: وتَظُنُّ أَنَّه كَانَ قَضَاءً حَتْماً وقَدَراً لَازِماً، إِنَّه لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ والْعِقَابُ والأَمْرُ والنَّهْيُ والزَّجْرُ مِنَ الله وسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ والْوَعِيدِ فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ ولَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ ولَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ ولَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ، تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ وحِزْبِ الشَّيْطَانِ وقَدَرِيَّةِ هَذِه الأُمَّةِ ومَجُوسِهَا، إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى كَلَّفَ تَخْيِيراً - ونَهَى تَحْذِيراً وأَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً ولَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً ولَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً- ولَمْ يُمَلِّكْ مُفَوِّضاً ولَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً - ولَمْ يَبْعَثِ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ عَبَثاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ يَقُولُ:
أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي نَرْجُو بِطَاعَتِه يَوْمَ النَّجَاةِ مِنَ الرَّحْمَنِ غُفْرَاناً
أَوْضَحْتَ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ مُلْتَبِساً جَزَاكَ رَبُّكَ بِالإِحْسَانِ إِحْسَاناً [11]
الشرح:
هذه الرواية الشريفة تخبرنا أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان جالساً في الكوفة بعد واقعة صفّين إذ أقبل شيخ وجثا بين يديه ثمَّ قال له: (أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ أبِقَضَاءٍ مِنَ الله وقَدَرٍ؟)، فَقَالَ أَمِير المؤْمِنِينَ (عليه السلام): (أَجَلْ يَا شَيْخُ مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً) هي ما ارتفع من الأرض (ولَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ) هو ما انخفض من الأرض (إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ الله وقَدَرٍ).
فقال الشيخ: (عِنْدَ الله أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ)، أي: أن العناء والتعب وما واجهته هو من أفعال الله تعالى، وعليه فلا معنى للأجر والثواب.
فقال (عليه السلام): (مَه يَا شَيْخُ) (مه) اسم فعل أمر، ومعناه أكفف نفسك عن هذا الكلام، (فَوَالله لَقَدْ عَظَّمَ الله الأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وأَنْتُمْ سَائِرُونَ وفِي مَقَامِكُمْ وأَنْتُمْ مُقِيمُونَ وفِي مُنْصَرَفِكُمْ وأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ) وكذلك كل ما يصيب الإنسان من مرض وبلاء وإن كان هو ليس باختياره لكنه يؤجر على ذلك ويثاب.
ثم يشير الإمام إلى أمر مهم وهو: أنّ قضاء الله لا يسلب الاختيار من الإنسان بقوله: (ولَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ) فسيرهم إلى صفين كان باختيارهم وارادتهم.
فقال الشيخ: (وكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِنَا مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ وكَانَ بِالْقَضَاءِ والْقَدَرِ مَسِيرُنَا ومُنْقَلَبُنَا ومُنْصَرَفُنَا) ومن هذا الكلام علم الإمام(عليه السلام) أن السائل أخطأ في معنى القضاء والقدر، فقال له على سبيل الإنكار والتوبيخ: (وتَظُنُّ أَنَّه كَانَ قَضَاءً حَتْماً وقَدَراً لَازِماً إِنَّه لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ والْعِقَابُ والأَمْرُ والنَّهْيُ والزَّجْرُ مِنَ الله وسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ والْوَعِيدِ)، أي: لو كان مسيرنا حتماً وقدراً للزم من ذلك الجبر وبطل بذلك الثواب والعقاب، لأنّ الثواب نفع يستحقّه العبد بالإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيّات، والعقاب ضرر يستحقّه بالإتيان بالمنهيّات والاجتناب عن الطاعات وهما تابعان للاختيار ولا يتحقّقان مع الإجبار، وسقط بذلك الأمر والنهي، والزجر مع عدم وجود الاختيار ولا معنى للوعد والوعيد، لأنّهما من الألطاف المحركة إلى إلامتثال بالأمر والنهيِّ، لرغبة الثواب ورهبة العقاب، وقد عرفت بطلان هذه الاُمور على تقدير الإجبار.
ثم قال (عليه السلام): (فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ ولَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ) فلا وجه للّوم والمدح إليهما إذا صدر الذَّنب والإحسان من غيرهما.
ثم قال (عليه السلام): (ولَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ ولَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ) وفي حديث الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو مثل هذا الحديث مع تفاوت يسير: (ولم يكن المُحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذَّم من المُحسن) وهذه العبارة أظهر معنى من العبارة الأولى، والمعنى: أنّ العبد إذا كان مسلوب الاختيار بالكلّيّة كان المحسن والمسيء متساويين في عدم القدرة وعدم استناد أفعالهما إليهما فلا يكون الأوَّل أولى بالمدح من الثاني ولا الثاني أولى بالذَّمِّ من الأوَّل.
ثم أوضح (عليه السلام) بطلان هذا الأمر بقوله: (تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ) ولعلَّ المراد بعبدة الأوثان مشركوا العرب فإنَّ بعضهم كانوا يقولون بنفي الحشر والنشر والثواب والعقاب، وبعضهم كانوا يقولون بالجبر بدليل قوله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) والمراد بإخوانهم الأشاعرة حيث يلزمهم ذلك وإن لم يقولوا به صريحاً (وخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ) لأنّه تعالى نسب في آيات كثيرة أفعال العباد إلى أنفسهم، فقال عزَّ مَن قائل: (وإنّي لغفارٌ لمَن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمَّ اهتدى)، وقال (مَنْ عمل صالحاً فلنفسه ومَن أساء فعليها)، وقال: (ليجزي الّذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الّذين أحسنوا بالحسنى)، وقال: (لنبلوهم أيّهم أحسن عملاً)، وقال: (أم حسب الّذين اجترحوا السيّئات أن نجعلهم كالّذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وقال: (والله بصير بما تعملون) إلى غير ذلك ممّا لا يعدُّ ولا يحصى، وصرَّح في كثير منها ببراءته من القبائح والظلم، فقال: (إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء) (إنَّ الله لا يظلم مثقال ذرَّة) (وما أنا بظلاّم للعبيد) إلى غير ذلك، وهؤلاء يقولون نحن براء من القبائح وأنت تفعلها ولا مخاصمة أعظم من ذلك، (وحِزْبِ الشَّيْطَانِ) لمتابعتهم إيّاه فيما يلقيه إلى نفوسهم الشريرة (ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون) (وقَدَرِيَّةِ هَذِه الأُمَّةِ ومَجُوسِهَا) قد عرفت آنفاً أنَّ القدريّة تطلق على الجبريّة القائلين بأنَّ الله تعالى قد جبر عباده على ما قدَّره وقضاه.
هذا الحديث وما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لرجل قدم عليه من فارس: (أخبرني بأعجب شيء رأيت فقال: رأيت قوماً ينكحون اُمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم فإذا قيل لهم: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: قضاء الله تعالى وقدره، فقال (صلى الله عليه وآله): سيكون من اُمّتي أقوام يقولون مثل مقالتهم اُولئك مجوس اُمّتي)[12]، وما روي عن الحسن بن عليّ (عليهما السلام) أنّه قال: (بعث الله محمداً (صلى الله عليه وآله) إلى العرب وهم قدرية يحملون ذنوبهم على الله)[13]، إلى غير ذلك من الرِّوايات المعتبرة، أدلّة واضحة على أنَّ المراد بالقدريّة والمجوس هم الأشاعرة وغيرهم من القائلين بالجبر، وفيما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (القدريّة مجوس هذه الاُمّة)[14].
ثمَّ أشار إلى أنَّ المراد بالقضاء والقدر هنا هو الحكم والتكليف على التخيير دون الإجبار بقوله: (إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى كَلَّفَ تَخْيِيراً ونَهَى تَحْذِيراً وأَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً)، فالله عز وجل مخير في إعطاء الثواب، قال تعالى: (مَنْ جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).
(ولَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً) ولو عصى العبد لم يكن سبحانه مغلوباً، بل ذلك بإرادته تعالى فقد أراد للعباد أن يختاروا فعلهم بأنفسهم من دون تدخل تكوني من قبله فيما يفعلون.
(ولَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً) أي صدور الإطاعة من العبد ليست لغلبته تعالى عليه، بل لأجل اختيار العبد إيّاها.
(ولَمْ يُمَلِّكْ مُفَوِّضاً) فحيث فوض الله عباده في أفعالهم وتروكهم، فليس معناه ملكوا أمرهم بشكل كلي وإنما على نحو: (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين).
(ولَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً) كما قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ* مَا خَلَقْنَاهُمَا إلّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
(ولَمْ يَبْعَثِ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ عَبَثاً) فلو كان العباد مجبرين في أفعالهم وتروكهم لأصبح بعث الأنبياء عبثاً منه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ثمَّ اقتبس(عليه السلام) من القرآن الكريم لجذب الشيخ من ورطة الهلاك إلى سبيل النجاة فقال: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)، أي: أنّ قول الله منطبق على من ظنَّ أنَّ القضاء كان حتماً والقدر كان لازماً.
فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ يَقُولُ:
أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي نَرْجُو بِطَاعَتِه يَوْمَ النَّجَاةِ مِنَ الرَّحْمَنِ غُفْرَاناً
أَوْضَحْتَ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ مُلْتَبِساً جَزَاكَ رَبُّكَ بِالإِحْسَانِ إِحْسَاناً
مجلة بيوت المتقين العدد (28 - 29)
[1] سورة القمر: آية 49.
[2] سورة النمل: آية 57.
[3] سورة فصلت: آية 10.
[4] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص160.
[5] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٥٩.
[6] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٥٩.
[7] عيون أخبار الرِّضا (عليه السلام): ج1، ص114.
[8] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٥٨.
[9] الاحتجاج: ج2، ص95.
[10] الاحتجاج: ج2، ص158.
[11] الكافي، الشيخ الكليني: ج ١، ص ١٥٥.
[12] بحار الأنوار: ج5، ص47.
[13] مرآة العقول: ج2، ص179.
[14] التوحيد: ص382.