كان عند عمر بن الخطاب يوما نفر من الناس يجالسونه، فجرى ذكر الشعر، فقال عمر: منْ أشعرُ العَرب؟ فذكر الحاضرون بعض أسماء العرب، عندها أقبل عبد الله بن عباس، فسلّم وجلَس.
فقال عمر: قد جاءكم الخبير، مَنْ أشعرُ الناس يا عبد الله؟
فقال ابن عباس: زهير بن أبي سلمى.
قال عمر: فأنشدْني مما تستجيده له.
فقال ابن عباس: إّنه مدح قوماً من غطفان، يقال لهم بنو سنان، فأنشد فيهم:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرمٍ ... قومٌ بأوَّلهمْ أو مجدِهمْ قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تَنسبُهُم ْ ... طابوا وطاب من الأولاد ما وَلَدُوا
فقال عمر: لقد أحسن، وما أرى هذا المدح يصلح إلاّ لبني هاشم.
فقال ابن عباس: وفّقك الله لكل خير.
فقال عمر: أتدري ما منع الناس منكم؟
قال ابن عباس: لا.
قال عمر: كرهتْ قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فجخفوا ـ تكبروا ـ جخفا، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت.
فقال ابن عباس: أتميطُ غضبك عنّي؟
قال عمر: قل ما تشاء.
فقال ابن عباس: أمّا قولك إن قريشاً كرهت، فإن الله تعالى قال لقوم: (ذَلِك بأنّهُمْ كَرِهُوا ما أنزل الله فأحبط أعْمَالهُمْ)[1]، وأمّا قولك: (إنّا كنّا نجخف)، فلو جَخَفْنا بالخلافة لجَخَفْنا بالقرابة وذلك أولى، ولكنّا قوم أخلاقنا مشتقة من خُلق رسول الله الذي قال عنه: (وَإنّك لَعَلَى خُلقٍ عظيم)[2]، وأمّا قولك: (فإن قريشا اختارت)، فإنّ الله تعالى يقول: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ..)[3]، وقد علمت أن الله اختار (علياً) لذلك، وانعقاد الخلافة بالشورى أو الإجماع أو البيعة ما هو إلا اجتهاد في مقابل النص، فلو نظرتْ قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت.
فقال عمر: على رسْلك، أبت قلُوبكم يا بني هاشم إلا غِشّا في أمر قريش لا يُزول، وحقدا عليها لا يَحول.
فقال ابن عباس: مَهْلاً لا تنسُب هاشما للغشّ، فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهّره الله وزكّاه، وهم أهلُ البيت الذين قال الله لهم:
(إنما يرُيدُ الله ليُذهِبَ عنكم الرجسَ أهْل البيت ويُطَهِّرَكم تطهيرا)[4].
وأما قولك: "حقدا" فكيف لا يحقد من غُصِب شيئهُ، ويراه في يد غيره.
فقال عمر: يا ابن عباس، قد بلغَني عنك كلامٌ أكره أن أخبرك به.
قال ابن عباس: وما هو؟ إنْ يكُ باطلاً فمثلي أماط الباطلَ عن نفسه، وإنْ يكُ حقا فإنّ منزلتي لا تزولُ به.
قال عمر: بلغني أنّك تقول: أُخِذَ هذا الأمر
- الخلافة - منكم حسدا وظلما.
قال ابن عباس: أمّا قولك: "حسداً"، فقد حسد إبليس آدم، فأخرجه من الجّنة، فنحن بنو آدم المحسود.
وأما قولك: "ظلماً" فتعلم علما يقينا من هو صاحب الحقِّ عن غيره! ألم تحتجّ العرب على العجم بحق رسول الله، واحتّجت قريش على سائر العرب بحقّه! فنحن أحقُّ برسول الله من سائر قريش.
فقال عمر: قم الآن فارجع إلى منزلك، فلّما قام هتف به عمر: أيها المنصرف، إنِّي على ما كان منك لراعٍ حقك!
فقال ابن عباس: إنّ لي عليك وعلى المسلمين حقا برسول الله، فمن حفظه فعليه تأديته، ومَنْ أضاعه فحقّ نفسه أضاع.
فقال عمر لجلسائه: واها لا بن عباس، ما رأيته لاحى - جادل - أحدا قطّ إلاّ خصَمه!
مجلة اليقين، العدد (19)، الصفحة (8 - 9).