فريضة الحج وإن صارت في هذه الأيام من الأمور اليسيرة - قياساً بسابق الأزمان - إلّا أن أثره وعطاءه للإنسان لم يتغيّر، وهذا يعتمد على فهم الحاج لهذا العمل العباديّ، واستعداده للتأثر بهذا السفر الى ساحة الرحمة والرضوان، ففي سفره إلى الحج يتذكر سفره إلى لله والدار الآخرة ، فيستعدّ الى ذلك السفر البعيد.
كذلك إن الذي يقصد هذا السفر يحرص أن يتزوّد من الزاد الذي يبلغه إلى الديار المقدسة ، فليتذكّر أن سفره إلى ربّه ينبغي أنْ يكون معه من الزاد ما يبلغه مأمنه ، ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) البقرة/197 .
وكما أنّ المسافر يشعر خلال سفره بشئ من العذاب والتعب، فالسفر إلى الدار الآخرة كذلك ، وأعظم منه بمراحل ، فأمام الإنسان النزعُ والموتُ والقبرُ والحشرُ والحسابُ والميزانُ والصراطُ ثم الجنة أو النار ، ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ* وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ* وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾الانفطار من 1-5 والسعيد من نجَّاه لله تعالى .
وإذا لبِس المحرِمُ ثوبي إحرامه فإنّه يذكر كفنه الذي سيكفّن فيه ، وهذا يدعوه إلى التخلّص من المعاصي والذنوب ، وكما تجرّد من ثيابه فعليه أن يتجرّد من الذنوب، وكما لبس ثوبين أبيضين نظيفين ، فكذلك ينبغي أن يكون قلبه وأنْ تكونَ جوارحه بيضاء لا يشوبها سواد الإثم والمعصية .
وإذا قال في الميقات " لبيك للهم لبيك " فهذا يعني أنه قد استجاب لربه تعالى، ودخل الساحة الإلهية بكلّ جوارحه وقلبه فهو كالملك المقرب في تلك الحال، فينظر الى نفسه ويعاتبها: ما بالك تميلين الى المعاصي والذنوب وهذه الصحوة بصوت القرب من لله والتسليم والانقياد " لبيك للهم لبيك " تدور بين الأرض والسماء الى نهاية الحج.
كما أنّ ترك المحظورات من المحرّمات والمكروهات أثناء الإحرام، والاشتغال بالذكر والدعاء: رسالة الى الإنسان ترسم له الحال الذي ينبغي أنْ يكونَ عليه ، ويستطيع أنْ يعتبر هذه الأحكام دورة تربوية لتتعوّد النفس على ترك المنكرات التي يبغضها لله تعالى، فهو يروّض نفسه ويربّيها على ترك مباحات في الأصل لكن لله حرمها عليه ها هنا ، فكيف يتعدّى على محرّمات حرّمها لله عليه في كلّ زمان ومكان ؟