(السَّلامُ عَلَى الحُسَيْنِ ، وَعَلَى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ ، وَعَلَى أوْلادِ الحُسَيْنِ ، وَعَلَى أصْحَابِ الحُسَيْنِ)
بُرير بن خُضير الهمداني وهو أحد شهداء كربلاء، كان أنموذجاً مضيئاً لأصحاب الوعي والبصيرة، وفرسان المصّر، وأبطال المواقف الخالدة الذين استجابوا لنداء الحق وتوجهوا نحو الحقيقة، متيقنين بأنهم في أوضح الطرق إليها، فساروا بإدراك ومعرفة ملبين نداء الله تحت لواء الحسين (عليه السلام)، وهم في أعلى درجات اليقين حتى سجلت لهم تلك الكلمات المشرفة التي جعلت منهم قدوة للأجيال ومدرسة لصناعة الإنسان الكامل.
حياة برير أضاءتها صحبته لأهل البيت(عليهم السلام)، فقد صحب برير الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ورافقه في جميع مشاهده (الجمل وصفين والنهروان)، ثم صحب بعده الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، ولما سمع بخروج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة إلى الكوفة خرج برير من الكوفة حتى التحق بالإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء ليختم فصول حياته المشرفة بأشرفها وهي الشهادة.
نسبه:
برير بن خُضير الهمداني المشرقي (وبنو مشرق بطن من همدان).
وهو خال أبي إسحاق الهمداني السبعي. وبعضهم قال: هو برير بن الحصين، والظاهر أنـّه ابن خضير، كما هو مشهورهم.
سيرته رضوان الله عليه:
كان برير شيخاً تابعياً ناسكاً، قارئاً للقرآن، من شيوخ القراء، ومن أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين.
وله كتاب القضايا والأحكام يرويه عن أمير المؤمنين وعن الحسن (عليهما السلام)، وكتابه من الاُصول المعتبرة عند الأصحاب[1].
قال أهل السير: أنه لما بلغ خبر الحسين (عليه السلام) سار من الكوفة إلى مكة ليجتمع بالحسين (عليه السلام) فجاء معه حتى استشهد.
الثبات على الحق:
لما ضيق الحُرّ على الحسين (عليه السلام) جمع (عليه السلام) أصحابه فخطبهم بخطبته التي يقول فيها: (أما بعد، فإن الدنيا قد تغيرت وأدبر معروفها واستمرت حتى لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء... ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهي عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما...)
فقام إليه مسلم ونافع فقالا ما قالا، ثم قام برير فقال: والله يا بن رسول الله لقد مَنَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك، تقطع فيك أعضاؤنا، حتى يكون جدك يوم القيامة بين أيدينا شفيعاً لنا، فلا أفلح قوم ضيعوا ابن بنت نبيهم، وويل لهم ماذا يلقون به الله، وأف لهم يوم ينادون بالويل والثبور في نار جهنم[2].
ما قاله الإمام الحسين(عليه السلام) عن أصحابه:
قال الإمام السجاد (عليه السلام): (لما جمع الحسين(عليه السلام) أصحابه عند قرب المساء، دنوت لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول: ... أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً.
ألا، وإني قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً)[3].
ففي ذلك الظرف، لا دور - إذن - للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالمعنى الفقهي، لأن الأخطار المحدقة كانت ملموسة، ومتيقنة ومتفاقمة للغاية، تفوق حد التحمل. وقد أدرك ذلك كل من اطلع على أحداث ذلك العصر، قبل اتجاه الإمام الحسين (عليه السلام) إلى العراق، ممن احتفظ لنا التاريخ بتصريحاتهم، فكيف بمن رافق الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيره الطويل من المدينة إلى مكة وإلى كربلاء، ومن أولاده وأهل بيته خاصة؟ الذين لا تخفى عليهم جزئيات الحركة وأبعادها وأصداؤها وما قارنها من زعزعة الجيش الكوفي للإمام، وسمعوا الإمام (عليه السلام) يصرح بالنتائج المهولة والأخطار التي تنتظر حركته ومن معه! حتى وقت تلك الخطبة مساء يوم التاسع، أو ليلة عاشوراء؟
فلقد عرف من بقي مع الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، بأن ما يقوم به الإمام ليس إلا فداءً وتضحية، لحاجة الإسلام إلى إثارة، والثورة إلى فتيل ووقود، واليقظة إلى جرس ورنين، والنهضة إلى عماد وسناد، والقيام إلى قائد ورائد، والحياة الحرة الكريمة إلى روح ودم. والإمام الحسين (عليه السلام) قد تهيأ ليبذل مهجته في سبيل كل هذه الأسباب لتكوين كل تلك المسببات.
ينبري بُرير ليسجل اسمه بحروف من نور، حين يقول للإمام الحسين (عليه السلام): (يا أبا عبد الله، لو كانت الدنيا باقية وكنا فيها مُخَلَّدون، وكانت الآخرة فانية ونحن فيها ميتون، لآثرنا الفناء معك على الخلود في الدنيا)[4].
شجاعته ومواقفه رضوان الله عليه:
بُرير بن خُضير الهمداني، الشهيد الذي لم يمنعه عمره الذي جاوز التسعين عن الجهاد في سبيل الحق والحقيقة ومقارعة الفساد والإفساد الأموي.
في مقتل السيّد المقرّم (رحمه الله): «ونادى يزيد بن معقل: يا بُرير، كيف ترى صنع الله بك؟ فقال: صنع الله بي خيراً، وصنع بك شرّاً، فقال يزيد: كذبتَ وقبل اليوم ما كنت كذّاباً، أتذكّر يوم كنت اُماشيك في «بني لوذان»، وأنت تقول: كان معاوية ضالاًّ وأنّ إمام الهدى عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) قال برير: بلى أشهد أنّ هذا رأيي، فقال يزيد: وأنا أشهد أنّك من الضالّين، فدعاه برير إلى المباهلة، فرفعا أيديهما إلى الله سبحانه يدعوانه أن يلعن الكاذب ويقتله، ثمّ تضاربا، فضربه برير على رأسه ضربة قدّت المغفر والدماغ، فخرّ كأنّما هوى من شاهق، وسيف برير ثابت في رأسه وبينا هو يريد أن يخرجه إذ حمل عليه رضي بن منقذ العبدي واعتنق بريراً واعتركا فصرعه برير وجلس على صدره، فاستغاث رضي بأصحابه، فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل على برير فصاح به عفيف بن زهير بن أبي الأخنس: هذا برير بن خضير القارئ الذي كان يقرؤنا القرآن في جامع الكوفة، فلم يلتفت إليه وطعن بريراً في ظهره فبرك برير على رضي وعضّ وجهه وقطع طرف أنفه وألقاه عنه كعب برمحه وضربه بسيفه فقتله»[5].
كان الجميع يعرف من هو بُرير (سيد القراء) لذا صاح أحد أفراد جيش ابن سعد وهو (عفيف بن زهير بن أبي الأخنس) بجابر: (هذا برير بن خضير القارئ الذي يقرؤنا القرآن في جامع الكوفة) ولا أدري لماذا لم ينصح عفيف نفسه بمقالته تلك فيقتدي ببرير؟
ليس هناك تفسير لمقولته هذه سوى النفاق ولأن النفاق قد استشرى في ذلك الجيش فلم يعد أحدهم يأبه بما يفعل وكأنهم قد سلخت منهم آدميتهم فصاروا كالوحوش ففعلوا في كربلاء ما يندى له جبين الإنسانية.
لقد قاتل برير دون الحسين(عليه السلام) إلى آخر رمق فكان مصداقاً حقيقياً لهذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[6] .
قال ابن شهرآشوب: «ثمّ برز برير بن خضير الهمداني، وهو يقول:
أنا برير وأبي خضير ليث يروع الأسد عند الزئــــر
يعرف فينا الخير أهل الخير أضربكم ولا أرى من ضير
وادركوا الفتح:
قال الامام الحسين (عليه السلام): (أما بعد فإن من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح) [7] .
لقد كان أصحاب الحسين (عليه السلام) رضوان الله عليهم صفوة البشرية يومئذ وسادة المسلمين، فهم بين صحابي سمع حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) ووعاه، وبين تابعي مخض الحقيقة، وجُلّهم حضر مشاهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إضافة إلى ذلك منزلتهم الاجتماعية، فهم زعمـاء المسلمين وفرسانهم، وعلماء الأمة وجهابذتها، وسادة الناس.
فقد كان تصميمهم على الموت واستبشارهم بالشهادة لم يعهد في جيش من جيوش الإسلام ولم يكن هذا منهم من قبيل المصادفة بل كان صدىً لعقيدة راسخة وولاء صادق، وقدم ثابتة في الإيمان والجهاد، فجزاهم الله عن الإسلام خيراً.
وهنيئاً لهم تلك العاقبة الحسنة، وهنيئاً لهم ذلك الوسام العظيم ألا وهو قول المعصوم (عليه السلام) بحقهم: (فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً). نعم فهم قوم وضعوا قلوبهم على أكفهم، أو كما قال الشاعر:
قوم إذا نودوا لــــــدفع ملـــــمة والخــــيل بين مدعس ومكردس
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا يتهـــافتون على ذهاب الأنفس[8]
فسلام عليهم يوم ولدوا ويوم استشهدوا وسلام عليهم يوم يبعثون.
مجلة بيوت المتقين العدد (16)