ونعتقد: أنّ الاَئمة هم أولو الاَمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم[1]، وأنّهم الشهداء على الناس[2]، وأنّهم أبواب الله، والسبل إليه، والاَدلاّء عليه[3]، وأنّهم عيبة علمه، وتراجمة وحيه، وأركان توحيده، وخُزّان معرفته[4]، ولذا كانوا أماناً لاَهل الاَرض كما أنّ النجوم أمان لاَهل السماء - على حد تعبيره صلىاللهعليهوآله[5]-.
وكذلك - على حدِّ قوله أيضاً - «إنّ مثلهم في هذه الاُمّة كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى»[6]
وأنّهم - حسبما جاء في الكتاب المجيد -(بَلْ عِبادٌ مُكرَمُون * لا يَسبِقُونَهُ بالقَولِ وَهُم بأَمرِه يَعمَلُونَ)[7].
وأنّهم الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً[8].
بل نعتقد: أنّ أمرهم أمر الله تعالى، ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ووليّهم وليّه، وعدوَّهم عدوّه[9].
ولا يجوز الرد عليهم والراد عليهم كالراد على الرسول، والراد على الرسول كالراد على الله تعالى[10].
فيجب التسليم لهم والانقياد لاَمرهم والاَخذ بقولهم.
ولهذا نعتقد: أنّ الاَحكام الشرعية الاِلهية لا تستقى إلاّ من نمير مائهم، ولا يصحّ أخذها إلاّ منهم، ولا تفرغ ذمّة المكلَّف بالرجوع إلى غيرهم، ولا يطمئنّ بينه وبين الله إلى أنّه قد أدّى ما عليه من التكاليف المفروضة إلاّ من طريقهم[11]. إنّهم كسفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق في هذا البحر المائج الزاخر بأمواج الشبه والضلالات، والادّعاءات والمنازعات.
ولا يهمّنا من بحث الامامة في هذه العصور إثبات أنّهم هم الخلفاء الشرعيون وأهل السلطة الإلهية؛ فإنّ ذلك أمر مضى في ذمّة التأريخ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد، أو يعيد الحقوق المسلوبة إلى أهلها، وإنّما الذي يهمّنا منه ما ذكرنا من لزوم الرجوع إليهم في الاَخذ بأحكام الله الشرعية، وتحصيل ما جاء به الرسول الاَكرم على الوجه الصحيح الذي جاء به.
وإنّ في أخذ الاَحكام من الرواة والمجتهدين الذين لا يستقون من نمير مائهم، ولا يستضيئون بنورهم، ابتعاداً عن محجّةالصواب في الدين، ولا يطمئن المكلَّف من فراغ ذمته من التكاليف المفروضة عليه من الله تعالى؛ لاَنّه مع فرض وجود الاختلاف في الآراء بين الطوائف والنحل فيما يتعلَّق بالاَحكام الشرعية اختلافاً لا يرجى معه التوفيق، لا يبقى للمكلَّف مجال أن يتخيَّر ويرجع إلى أي مذهب شاء ورأي اختار، بل لا بدَّ له أن يفحص ويبحث، حتى تحصل له الحجة القاطعة بينه وبين الله تعالى على تعيين مذهب خاص يتيقّن أنّه يتوصِّل به إلى أحكام الله، وتفرغ به ذمّته من التكاليف المفروضة؛ فإنّه كما يقطع بوجود أحكام مفروضة عليه يجب أن يقطع بفراغ ذمّته منها؛ فان الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
والدليل القطعي دالّ على وجوب الرجوع إلى آل البيت، وأنّهم المرجع الاَصلي بعد النبي لاَحكام الله المنزلة، وعلى الاَقل قوله عليه أفضل التحيات: «إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً؛ الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الاَرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»[12]
وهذا الحديث اتّفقت الرواية عليه من طرق أهل السنَّة والشيعة.
فدقّق النظر في هذا الحديث الجليل تجد ما يقنعك ويدهشك في مبناه ومعناه، فما أبعد المرمى في قوله: «إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً» والذي تركه فينا هما الثقلان معاً؛ إذ جعلهما كأمر واحد، ولم يكتف بالتمسُّك بواحد منهما فقط، فبهما معاً لن نضل بعده أبداً.
وما أوضح المعنى في قوله: «لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، فلا يجد الهداية أبداً من فرَّق بينهما ولم يتمسّك بهما معاً، فلذلك كانوا «سفينة النجاة»، و«أماناً لاَهل الاَرض»، ومن تخلَّف عنهم غرق في لجج الضلال، ولم يأمن من الهلاك.
وتفسير ذلك بحبّهم فقط من دون الاَخذ بأقوالهم واتّباع طريقهم هروب من الحق، لا يلجىء إليه إلاّ التعصُّب والغفلة عن المنهج الصحيح في تفسير الكلام العربي المبين.
[1] إشارة إلى قوله تعالى: (يأَيُّها الّذِينَ آمَنوُا أَطِيعوُا اللهَ وأطيعوُا الرَّسُولَ وأُوْلِي الاَمْرِ منْكُمْ فَإنْ تَنَزَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ والرَّسُولِ إِن كُنْتُم تُؤمِنُونَ باللهِ وَاليومِ الاَخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً) النساء 4: 59.
[2] فقد ورد عن الامام الباقر عليهالسلام وعن الامام أبي عبدالله الصادق عليهالسلام أنّهم قالوا: «نحن الاَمة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه» الكافي: 1/146 ح2 و4، حيث ورد قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) البقرة 2: 143.
[3] حيث أنّهم هم الاَئمة بالحق، وقد تواتر عن النبي قوله: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية». انظر: عقيدتنا في الامامة.
وورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام قوله: «إنّ الله تبارك وتعالى لو شاء لعرّف العباد نفسهُ، ولكن جعلنا أبوابه، وصراطه، وسبيله، والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا فانّهم عن الصراط لناكبون» الكافي: 1/184.
[4] ورد عن الاِمام الباقر عليهالسلام: «نحن خزّان علم الله، ونحن تراجمة وحي الله، ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الاَرض» الكافي: 1/192.
وورد - أيضاً - عن الامام الصادق عليهالسلام قوله: «نحن ولاة أمر الله، وخزنة علم الله وعيبة وحي الله» الكافي: 1/192.
[5] انظر: صحيفة الامام الرضا عليهالسلام: 47 ح67، عيون أخبار الرضا عليهالسلام: 2/27 ح14، علل الشرائع: 123 ح1، إكمال الدين: 1/205 ح19، فضائل أحمد: 189/267، المعجم الكبير للطبراني: 7/25 ح6260، المطالب العالية: 4/74 ح4002، إحياء الميت بفضائل أهل البيت عليهمالسلام للسيوطي: 42 ح21، ذخائر العقبى: 17، فرائد السمطين: 2/241 ح515، كنز العمال: 12/101 ح34188، مستدرك الحاكم: 3/149، مجمع الزوائد: 9/174، الصواعق المحرقة: 234.
[6] انظر: إكمال الدين: 239 ذيل الحديث 59، الاَمالي للطوسي: 60 ح88/57 و459 ح1026/32، عيون الاَخبار لابن قتيبة: 1/310، مستدرك الحاكم: 2/343 و3/150، حلية الاَولياء: 4/306، تاريخ بغداد: 12/91 ح6507، مقتل الحسين للخوارزمي: 1/104، المعجم الكبير للطبراني: 12/34 ح12388، المعجم الصغير للطبراني: 2/22، المناقب لابن المغازلي: 132 - 134 ح173 - 177، ارجح المطالب: 4/75 ح4003، 4004، ذخائر العقبى: 20، الخصائص الكبرى: 2/266، إحياء الميت بفضائل أهل البيت عليهمالسلام للسيوطي: 45 ح24 - 27، فرائد السمطين: 2/242 ح516، كنز العمال: 12/95 ح34151، مجمع الزوائد: 9/168، الصواعق المحرقة: 234.
[7] الاَنبياء 21: 26 - 27.
[8] أجمع المفسرون، وروي عن أئمة أهل البيت وكثير من الصحابة أنّ قوله تعالى: (إِنَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيراً) الاَحزاب 33: 33. نزل في رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام. وإلى هذا أشار المصنّف قدسسره.
وللاطّلاع: راجع: نهج الحق: 173، شواهد التنزيل للحسكاني: 2/10 - 192، الدر المنثور: 5/198، مشكل الآثار: 1/332، مجمع الزوائد: 9/121. مسند أحمد بن حنبل: 1/330 و4/107 و6/292، الصواعق المحرقة: 85، تفسير الطبري: 22/5، أُسد الغابة: 4/29، خصائص النسائي: 4، الغدير: 1/49 و: 3/195 و: 5/416، احقاق الحق: 2/501 - 553 و: 3/531 - 551 و: 5/54 و58 - 60 و: 9/1 - 69 و: 18/359 - 383، دلائل الصدق: 2/103، صحيح مسلم: 4/1883، سنن الترمذي: 5/351، تفسير ابن كثير: 3/493.
[9] حيث قال رسول الله صلىاللهعليهوآله في حق علي عليهالسلام في حديث الغدير: «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وادر الحق معه كيفما دار». وسيأتي الكلام عنه في مبحث عقيدتنا في أنّ الامامة بالنص.
[10] بما أنّ الامام منصّب من قبل الرسول صلىاللهعليهوآله، وبما أنّ الرسول قال نصاً: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» فهذا يقتضي أنّ طاعة الامام هي طاعة الرسول، والراد عليه كالراد على الرسول، وقد قال تعالى: (مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) النساء: 4: 80.
[11] فقد ورد عن أبي حمزة الثمالي، عن السجاد عليهالسلام: «قال لنا علي بن الحسين عليهالسلام: أي البقاع أفضل؟ فقلنا: الله ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال لنا: افضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أنّ رجلاً عمّر ما عمّر نوح في قومه - ألف سنة إلاّ خمسين عاماً - يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ثم لقى الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً». من لا يحضره الفقيه: 2/159 ح17، عقاب الاعمال: 243 ح2، الاَمالي للطوسي: 132 ح209/22، وسائل الشيعة: 1/122 ح 308، وكذا كافة أحاديث الباب 29 من أبواب مقدمة العبادات في الوسائل: 1.
وأورد الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ج2 ح141 الحديث التالي: عن أبي أمامة الباهلي: «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله: إنّ الله خلق الاَنبياء من أشجار شتى وخلقت وعلي من شجرة واحدة، فأنا أصلها، وعلي فرعها، والحسن والحسين ثمارها، وأشياعنا أوراقها فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا، ومن زاغ هوى، ولو أنّ عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام، ثمّ ألف عام، حتى يصير كالشن البالي، ثمّ لم يدرك محبتنا أكبّه الله على منخريه في النار، ثمّ قرأ صلىاللهعليهوآله: (قُلْ لاَ أَسئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ الْمَوَدَّةَ في القُربَى) [الشورى 42: 23]».
[12] انظر: سنن الترمذي: 5/663 ح3788، مسند أحمد: 3/14 و17 و: 26، 5/182 و189، سنن الدارمي: 431، المصنف لابن أبى شيبة: 11/452 ح11725، السنّة لابن أبي عاصم: 2/336 ح754 و: 628 - 630 ح1548 و1549 و1553 - 1555، طبقات ابن سعد: 2/194، مشكل الآثار: 4/368، مستدرك الحاكم: 3/109 و148، حلية الاَولياء: 1/355، المعجم الكبير للطبراني: 5/153 - 154 ح 4921 - 4923 و: 169 - 170 ح4980 - 4982 والمعجم الصغير: 1/131، المناقب لابن المغازلي: 234 - 235 ح281 - 283، مصابيح السنة: 4/190 ح4816، جامع الاصول: 1/278، اُسد الغابة: 2/12، ذخائر العقبى: 16، إحياء الميت بفضائل أهل البيت عليهمالسلام للسيوطي: 30 - 32 ح6 - 8 مجمع الزوائد: 1/170 و9/162، كنز العمال: 1/172 - 173 ح870 - 873 و875 - 876 و185 - 186 ح943 - 945 و947، 949 و: 187 ح 952 - 953، صحيح مسلم: 4/1873 ح36 و37، تفسير الرازي: 8/163، تفسير ابن كثير: 4/122.