مع أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، إلّا أنه بعد عصر صدر الإسلام ودخول قوميات متعددة في الإسلام، وما جرى من التبادل الثقافي والتفاعل التجاري والاجتماعي؛ تغير العرب عن لغتهم واختلطت الكلمات والتراكيب اللغوية بلغات أخرى، بحيث أصبح العربي ينبهر من سماع الكلام الفصيح النقي، كما أن المسلمين يحتاجون إلى فهم القرآن الكريم باعتباره المنهج الحياتي الذي يضمن التكامل والتوازن في الفكر والسلوك للفرد المسلم، فالآيات القرآنية فيها أسرار بيانية، وتراكيب بلاغية وأساليب خطابية تصل حد الإعجاز، لهذا نشأت حاجة المفسّرين في تذوق القرآن الكريم والبحث في معانيه وقصوده إلى البصيرة والدراية والخبرة بعلوم اللغة العربية من البلاغة والنحو والصرف، قال الزمخشري - رحمه الله-: "ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح وأنهضها بما يبهر الألباب القراح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سلكها- علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كلّ ذي علم – كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بّز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقّوة لحييه – لا يتصدّى منهم أحمد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلاّ رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن هما علم المعاني وعلم البيان وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانها همّة في معرفة لطائف حجة الله وحرصّ على استيضاح معجزة رسول الله (ص)، بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحّظ، جمعا بين أمرين تحقيق وحفظ، كثير المطالعات طويل المراجعات، قد رجع زمانا ورجع إليه، وردّ عليه، فارسا في علم الإعراب، مقدما في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقّدها، يقظان الحس درّاكا للمحة وإن لطف شأنها منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لا كّزا جاسيا، ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر مرتاضاً غير ريّض بتلقيح بنات الفكر، قد عرف كيف يرتّب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف طالما دفع إلى مضايقـه ووقع في مداحضه ومزالقه.[1]
ولنختر مثالاً على أثر اللغة في فهم القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)[2].
فمعنى (كَافَّةً لِّلنَّاسِ) للناس كافة، لكن العلماء والمفسرون لا يقبلون هذا المعنى لأنه على غير السياق العربي، وذلك لأن (كَافَّةً) على المعنى المذكور ستعرب حالاً من الناس، وإذا كان صاحب الحال جاراً ومجروراً فلا يجوز أن تتقدم الحال عليه وإلّا كان ينبغي أن يقال وما أرسلناك إلّا للناس كافة.
كذلك وجود اللام في (لِّلنَّاسِ) لا يتلاءم مع كون كافة حالاً من الناس، والمفروض أن يأتي بحرف الجر إلى على هذا المعنى، قال الزمخشري: "(إلّا كافة للناس) إلّا إرساله عامة لهم محيطة بهن؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفّتهم أن يخرج منها أحد منهم، وقال الزجاج: المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ، فجعله حالا من الكاف، وحق (التاء) على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الرواية والعلامة، ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجارّ.[3]
أمثلة أثر اللغة في تفسير القرآن الكريم
1/ في التقديم والتأخير نقرأ قول الله تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[4].
فلقد قدّم الإنس لأنهم المعنيون بالتحدي.
ونقرأ قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ).[5]
قدّم الجّن لأن شأنهم الحركة والتشكل فبي أوضاع غير بشرية.
ونقرأ قول الله تعالى في سورة البقرة: (وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ).[6]
قدّمت الأعمال الظاهرة للإنسان. لكننا نقرأ في سورة آل عمران: (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ).[7]
فقد قدّم هنا ما يخفيه الإنسان على ما يبديه. وما ذلك إلا لأن الآية الكريمة جاءت في سياق موالاة غير المؤمنين، وهي من الأعمال التي لا يحبّون إظهارها، بل تكون سرّا بينهم وبين أعداء الله.
2/ أداة الشرط، قال الله تعالى في سورة البقرة: (فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ).[8]
حيث جاءت الجملة الأولى التي ذُكر فيها فعل الخوف مقيّدة بـ (إن) والثانية التي ذكر فيها الأمن مقيدة بـ (إذا)، وعلماء البيان بينوا بيانا شافيا الفرق بين الأداتين: إن وإذا، حيث ذكروا أن (إذا) تكون للأمر ممكن التحقق، في حين (إنْ) للأمر الذي لا يمكن تحققه.
كذلك قوله الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) وفي الآية التي تليها: (وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا)[9].
حيث أن مجيء المؤمنات مهاجرات مما يمكن حصوله عُبر بـ (إذا) أما ارتداد المرأة عن الإسلام فهو نادر عبّر بـ (إنْ).
3/ اختلاف معنى الكلمة الواحدة: منه قوله تعالى: (لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ)[10].
فقد اختلف المفسرون في معنى (ما) من قوله (وَمَا عَمِلَتْهُ)، فمنهم من قال إنها نافية، ليأكلوا من هذا الثمر الموصوف أنه لم تعمله أو تخلقه أيديهم، بل هو من نعم الله عليهم.
وقيل هي اسم موصول، والمعنى ليأكلوا من هذا الثمر وليأكلوا من الذي عملته أيديهم.
ومثل هذه الأساليب لا تخلوا منها آيات القرآن الكريم، فلابد من الإلمام الشامل بعلوم العربية لمن يريد أن يبحر في معاني القرآن الكريم ومعانيه فضلاً عن توجيهاته وأحكامه.