قال تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ)[1].
بعد الآيات التي استدل فيها على بطلان القول بإلوهية عيسى بن مريم (عليه السلام)، يأمر الله نبيه بالمباهلة إذا جاءه من يجادله من بعد ما جاء من العلم والمعرفة. وأمره أن يقول لهم: إني سأدعو أبنائي، وأنتم ادعوا أبناءكم، وأدعو نسائي، وأنتم ادعوا نساءكم، وأدعو نفسي، وتدعون أنتم أنفسكم، وعندئذ ندعو الله أن ينزل لعنته على الكاذب منا (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين).
وإن المباهلة - وإن لم يكن في الآية ما يشير إلى تأثيرها - كانت بمثابة السهم الأخير بعد أن لم ينفع المنطق والاستدلال، فإن الدعاء وحده لم يكن المقصود بها، بل كان المقصود منها هو أثرها الخارجي
مباهلة في الأصل من مادة بهل (على وزن أهل) بمعنى إطلاق وفك القيد عن الشيء، وتستعمل بمعنى الملاعنة بين الشخصين، ولذا يجتمع أفراد للحوار حول مسألة دينية مهمة في مكان واحد ويتضرعون الله أن يفضح الكاذب ويعاقبه.
المباهلة دليل قاطع على أحقية نبي الإسلام:
لعل قضية المباهلة بهذا الشكل لم تكن معروفة عند العرب، بل كانت أسلوبا يبيّن صدق النبي (صلى الله عليه وآله) وإيمانه بشكل قاطع، إذ كيف يمكن لمن لا يؤمن كل الإيمان بعلاقته بالله أن يدخل هذا الميدان، فيطلب من معارضيه ان يتقدموا معه إلى الله يدعونه أن ينزل لعناته على الكاذب، وأن يروا سرعة ما يحل بالكاذب من عقاب؟! لا شك أن دخول هذا الميدان خطر جدا، لأن المبتهل إذا لم يجد استجابة لدعائه، ولم يظهر أي أثر لعقاب الله على معارضيه، فلن تكون النتيجة سوى فضيحة المبتهل. فكيف يمكن لإنسان عاقل ومدرك أن يخطو مثل هذه الخطوة دون أن يكون مطمئنا إلى أن النتيجة في صالحه؟ لهذا قيل إن دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المباهلة تعتبر واحدا من الأدلة على صدق دعوته وإيمانه الراسخ بها، بصرف النظر عن النتائج التي كانت ستكشف عنها المباهلة.
تقول الروايات الإسلامية: عند عرض هذا الاقتراح للمباهلة، طلب ممثلو مسيحيي نجران من رسول الله أن يمهلهم بعض الوقت ليتبادلوا الرأي مع شيوخهم.
فكان لهم ما أرادوا، وكانت نتيجة مشاورتهم هي أنهم أمروا رجالهم بالدخول في المباهلة دون خوف إذا رأوا محمدا قد حضر في كثير من الناس ووسط جلبة وضوضاء، إذ أن هذا يعني أنه بهذا يريد بث الرعب والخوف في النفوس وليس في أمره حقيقة، أما إذا رأوه قادما في بضعة أنفار من أهله وصغار أطفاله إلى الموعد، فليعلموا أنه نبي الله حقا، وليتجنبوا مباهلته.
وقد حضر المسيحيون إلى المكان المعين، ثم رأوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقبل يحمل الحسين (عليه السلام) على يد ويمسك الحسن (عليه السلام) باليد الأخرى ومن خلفه علي وفاطمة (عليهما السلام)، وهو يطلب منهم أن يؤمّنوا على دعائه عند المباهلة. وإذ رأى المسيحيون هذا المشهد استولى عليهم الفزع، ورفضوا الدخول في المباهلة، وقَبِلُوا التعامل معه بشروط أهل الذمة.
وروي أن الأسقف قال لهم: إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.
أحد أدلة عظمة أهل البيت (عليهم السلام):
يصرح المفسرون من الشيعة والسنة أن آية المباهلة قد نزلت بحق أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، وأن الذين اصطحبهم النبي (صلى الله عليه وآله) معه للمباهلة بهم هم: الحسن والحسين وفاطمة وعلي (عليهم السلام) وعليه، فإن (أبناءنا) الواردة في الآية ينحصر مفهومها في الحسن والحسين (عليهما السلام)، ومفهوم (نساءنا)ينحصر في فاطمة (عليها السلام)، ومفهوم أنفسنا ينحصر في علي (عليه السلام)، وهناك أحاديث كثيرة بهذا الخصوص.
صاحب الكشاف وهو من كبار علماء أهل السنة، يذهب إلى أن هذه الآية أقوى دليل على فضيلة أهل الكساء (عليهم السلام).
أبناء البنت أبناء أبيها:
تفيد آية المباهلة بأن أبناء البنت يعتبرون أبناء أبيها أيضا، بخلاف ما كان سائدا في الجاهلية في اعتبار أبناء الابن فقط هم أبناء الجد، إذ كانوا يقولون:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا نوهن أبناء الرجال الأباعد
هذا اللون من التفكير كان من بقايا التقاليد الجاهلية الخاطئة التي لم تكن ترى المرأة عضوا من أعضاء المجتمع، بل كانت تنظر إليها على أنها وعاء لنمو الأبناء فقط، وترى أن النسب يلحق بالآباء لا غير. يقول شاعرهم:
وإنما أمهات الناس أوعــية مستودعات وللأنساب آباء
غير أن الإسلام قضى على هذا اللون من التفكير، وساوى بين أبناء الابن وأبناء البنت.
نقرأ في الآية 84 و85 من سورة الأنعام بشأن أبناء إبراهيم (عليه السلام): (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ)، فالمسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) عُدَّ هنا من أبناء إبراهيم (عليه السلام) مع أنه كان ابنا من جهة البنت.
وفي الآيات التي تحرم الزواج ببعض النساء نقرأ: (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ)[2].
يتفق علماء الإسلام على أن الرجل يحرم عليه الزواج من زوجة ابنه وزوجة حفيده سواء أكان من جهة الابن أم البنت، باعتبار شمولهم بالآية المذكورة[3].
مجلة بيوت المتقين العدد (67)