وفق فتاوى سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله)
سألني أحد أصدقائي الطلبة في كلية الزراعة، بينما كنت في سنتي الدراسية الأخيرة، ما تودّ فعله بعد التخرج من الكلية؟
قلت له: أسعى في البحث عن وظيفة في إحدى دوائر الدولة.
فقال لي: وكيف ذلك ألا ترى البطالة المتفشّية في البلد وصعوبة الحصول على وظيفة في وقتنا الراهن، وكثرة المتخرّجين من الكليات والمعاهد، بل إن بعضهم يملكون شهادات عُليا في شتّى الاختصاصات ولم يحالفْهم الحظّ في التعيين.
فقلت له: وما الحل في رأيك؟
قال: بالنسبة لي سأزاول الأعمال الحرة وأدخل باب التجارة.
فقلت له: إذا رغبت أن تمتهن التجارة عليك أن تتفقّه في دينك.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من أراد التجارة فليتفقّه في دينه؛ ليعلم بذلك ما يحلّ له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقّه في دينه ثم اتّجر تورط في الشبهات». وسائل الشيعة للعاملي: ج17، ص382.
فقال: وما علاقة الفقه بالتجارة؟
فقلت: عجباً ما تقول، لقد كَفَلَ لنا المشرّع الإسلامي معالجة مختلف جوانب حياتنا الاقتصادية، بما يضمن العدالة وحسن استثمار وتوزيع الثروة بين مختلف أفراد وطبقات المجتمع، لما فيه خير ومصلحة الجميع.
فقال: وكيف عالج ذلك؟
قلت: بعدّة ضوابط تجيز أو تحظر بعض الأنشطة الاقتصادية أحياناً، أو تضيّق أو توسِّع قنوات بعض منها أحياناً أخرى، فهناك من الأنشطة التجارية ما يحرم مزاولته أو مباشرته.
فقال: مثل ماذا؟
قلت: مثل بيع الكلاب (عدا كلب الصيد)، وبيع الخنزير، وبيع الميتة النجسة بما في ذلك لحوم وجلود الحيوانات المذبوحة بطريقة غير شرعيّة، وغصب المال وبيعه، وكذا الغش والربا، وبيع ما لا ينتفع به إلا بالحرام مثل آلات القمار وآلات اللهو المحرّم كالمزمار.
ثم قال لي: واحتكار الطعام هل هو حرام؟
قلت: احتكار الطعام، هو حبسه والامتناع من بيعها، فإذا كان ذلك لانتظار زيادة القيمة مع حاجة المسلمين ومن يلحق بهم من سائر النفوس المحترمة إليها فهو حرام، ويقصد من الطعام: القوت الغالب لأهل البلد، واحتكار ما يتوقف عليه تهيئة الطعام كالوقود، وما يُعد من مقومّاته كالملح والسمن انتظاراً لزيادة قيمتها السوقيّة مع حاجة المسلمين الماسة لها.
فقال: وزيادة أحد في ثمن شيءٍ لا يريد شراءه حقيقةً بل من أجل أن يسمعه غيره فيزيد في سعره؟
قلت: حرام، (وإن خلا عن الغش على الأحوط وجوباً).
فقال: وشراء المأخوذ بالقمار أو السرقة؟
قلت: حرام.
فقال: كلّما سألتك سؤالاَ أجبت بحرمته أفلا يوجد شيء في التجارة غير محرّم؟
قلت: نعم، هناك من الأنشطة التجارية ما هو مبغوض عند المشرّع الإسلامي، ولكن رَغْبَةَ تركهِ واجتنابهِ غير ملزمة للمكلف فهو مكروه لا محرم.
قال: مثل ماذا؟
قلت: بيع العقار مكروه إلا أن يشتري بثمنه عقاراً آخر، وكذلك بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضّة من غير زيادة مكروه وأما مع الزيادة فحرام.
فقال: وهل هناك أساليب مكروهة في التعامل بالأنشطة التجارية؟
قلت: نعم، يكره كتمان العيب إذا لم يؤدِّ الى غشّ مثلاً وإلا كان حراماً، ويكره الحلف في المعاملة إذا كان صادقاً، وإلا كان حراماً، ويكره زيادة الربّح على المؤمن زائدا على مقدار الحاجة.
فقال: وماذا أيضا؟
قلت: يكره طلب تنقيص السعر بعد البيع، ويكره البيع في المكان المظلم الذي لا يظهر فيه عيب السلعة، ويكره مدح البائع سلعته، وذمّ المشتري لها.
فقال: ذكرت لي المكروهات فهل هناك مستحبات في التجارة؟
قلت: نعم، من الأنشطة التجارية ما هو مرغوب ومحبوب فيه لدى المشرّع الإسلامي، ولكنه غير ملزم للمكلّف ولا واجب عليه فهو مستحب.
فقال: هلا أعطيتني مثالاً؟
قال: مثال ذلك إقراض المؤمن بغير طلب الزيادة، وشراء العقار، وإعطاء المال لمن يتاجر به وفق نسبة معينة من الرّبح للطرفين.
ويستحب التسوية بين المبتاعين في الثمن إلاّ لمرجّح كالفقر فيحسن ذلك، وأن لا يفرق البائع بين المشتري المماكس ـ وهومَنْ يلحّ على تخفيض سعر السلعة ـ وبين غيره ممن يشتري دون مماكسة.
ويستحب للبائع أن يقيل النادم ـ شخص يشتري البضاعة ويرغب بإعادتها لبائعها واسترجاع ثمنها ـ.
ويستحب للإنسان أن يأخذ الناقص ويعطي الراجح، والتساهل في الثمن.
ويستحب فتح الباب والجلوس في المحل لعله يبيع، والتعرّض للرزق وطلبه.
ويستحب الإحسان في البيع والسماح فيه، واختيار وشراء الجيد وبيعه.
ويستحب الاغتراب في طلب الرزق والتبكير إليه، وغيرها الكثير.
فقال لي: وهل هناك أَنشطة تجارية واساليب غير محبوبة ولا مبغوضة لدى المشرِّع الاسلامي، والإنسان مخيّر بين فعلها وتركها من دون ترجيح للفعل أو الترك؟
قلت: نعم ويطلق عليها المباحات، وهي التي لم يقل المشرّع الإسلامي لا باستحبابها ولا كراهيّتها كما هو حال الكثير من الانشطة التجارية السائدة اليوم.
المصدر: مجلة ولاء الشباب العدد (35)