عبادتها (عليها السلام) وانقطاعها إلى الله تعالى

العبادة: من العبودية وهي غاية الخضوع والتذلل، وإِن من أَسرار تشريع العبادة وعللها: الشكر لله تعالى على نعمه الكثيرة التي لا تحصى، ومواهبه العظيمة التي لا تعدّ ولا تدرك عظمتها.

فإِنه تعالى هو المنعم المطلق الذي خلق الإِنسان بقدرته، ومنحه نعمة الوجود بعد أَن لم يكن شيئاً مذكوراً، ورزقه من النِعم ما لا يعد ولا يحصى، فهو تعالى أَهل لأَن يُعْبَد، وإِنما يعبده الأَحرار؛ لأَنه أَهل للعبادة كما قال الإِمام أَمير المؤمنين(عليه السلام): (إِلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أَهلا للعبادة فعبدتك)[1]. وتلك هي عبادة الأحرار.

نعم، بالعبودية لله تعالى يتحرر الإنسان من عبودية ما سوى الله، كما أَن بالعبودية لله تعالى ينال الإِنسان المقامات الرفيعة والجاه العظيم عند الله سبحانه، وأَن مقام كل مقرب عند الله يكون بقدر عبوديته وعبادته لله تعالى.

وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يصلي الليل كله، ولقد قام(صلى الله عليه وآله) عشر سنين على أَطراف أَصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه، فأَنزل الله عليه: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[2].

فقال(صلى الله عليه وآله): (أَو لا أَكون عبداً شكوراً)[3].

وكان أَمير المؤمنين(عليه السلام) يصلي كل يوم وليلة أَلف ركعة، عن أَبي بصير قال: دخلنا على أَبي عبد الله(عليه السلام) فقال له أَبو بصير: ما تقول في الصلاة في شهر رمضان؟ فقال: (لشهر رمضان حرمةٌ وحقُّ لا يشبهه شئٌ من الشهور، صلِّ ما استطعت في شهر رمضان تطوعاً بالليل والنهار، فإِن استطعت أَن تصلي في كل يوم وليلة أَلف ركعة [فافعل] إِنَّ علياً(عليه السلام) في آخر عمره كان يصلي في كل يوم و ليلة أَلف ركعة)[4]، ولم يترك النافلة حتى في الحروب، كما روي عنه في صلواته ليلة الهرير[5] بصفين.

عن الحسن بن محمد الديلمي في (الارشاد) قال: كان علي(عليه السلام) يوماً في حرب صفين مشتغلاً بالحرب والقتال وهو مع ذلك بين الصفين يراقب الشمس، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، ما هذا الفعل؟ قال: (أُنظر إِلى الزوال حتّى نصلي)، فقال له ابن عباس: وهل هذا وقت الصلاة؟ إِنَّ عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة، فقال(عليه السلام): (على ما نقاتلهم؟ إِنما نقاتلهم على الصلاة)، قال: ولم يترك صلاة الليل قط حتى ليلة الهرير)[6].

وكذلك كانت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) تصلي عامة الليل، فإِذا اتضح عمود الصبح أَخذت تدعو للمؤمنين والمؤمنات.

وكان الأَئمة من ولدها(عليها السلام) يضرب بهم المثل في العبادة.

أَما زَيْنَب(عليها السلام) فلقد كانت في عبادتها ثانية أُمها الزهراء(عليها السلام)، وكانت تقضي عامة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن.

وإِنها (صلوات الله عليها) ما تركت تهجدها لله تعالى طول دهرها، حتى ليلة الحادي عشر من المحرم.

فقد روي عن زين العابدين(عليه السلام) أَنه قال: (رأيتها تلك الليلة تصلي من جلوس)[7].

وعنه(عليه السلام) أَنه قال: (إِن عمّتي زَيْنَب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إِلى الشام ما تركت نوافلها الليلية)[8].

 وقالت فاطمة بنت الحسين(عليه السلام): (وأَما عمتي زَيْنَب فإِنها لم تزل قائمة في تلك الليلة - أَي: العاشرة من المحرم - في محرابها تستغيث إِلى ربها، فما هدأت لنا عين، ولا سكنت لنا رنة)[9].

وروى بعض عن الإِمام زين العابدين(عليه السلام) أَنه قال: (إِن عمتي زَيْنَب كانت تؤدي صلواتها من قيام الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أُصلي من جلوس لشدة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال، لأَنها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الأَطفال، لأَن القوم كانوا يدفعون لكل واحد مِنا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم و الليلة)[10].

ولما كانت السيدة زَيْنَب(عليها السلام) عقيلة خدر الرسالة من سلالة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وذريته، وقد هذّبت نفسها وروضتها على العبادة والتقوى، والخير والإِحسان، تأهلت لأَن تنال حظاً من العصمة، المعبر عنه بـ: العصمة الصغرى، وقد أَشار إِلى ذلك الإِمام زين العابدين(عليه السلام) في بعض كلامه لها.

 


[1]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج41، ص14.

[2]  سورة طه: الآية 1-2.

[3]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج10، ص40، ب2 ح 1.

[4]  الكافي، الشيخ الكليني: ج4، ص154.

[5]  إنما سميت الليلة بليلة الهرير لكثرة أصوات الناس فيها للقتال، وقيل: لاضطرار معاوية وفزعه عند شدة الحرب واستيلاء أهل العراق كالكلب فان الهرير أنين الكلب عند شدة البرد .

[6]  وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج4، ص247.

[7]  شجرة طوبى، محمد مهدي الحائري: ج2، ص393.

[8]  وفيات الأئمة، من علماء البحرين والقطيف: ص441.

[9]  وفيات الأئمة، من علماء البحرين والقطيف: ص441.

[10] المصدر السابق: ص441.