عن سلمة بن كهيل عن حبة العرني قال سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول:( إنّي أخْشى عليكم اثْنَتين اتِّبَاعُ الْهَوَي وَطُولُ الْأَمَلِ فأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ و أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَي فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ)[1].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إيّاكَ وطولَ الأَمَلِ ؛ فَكَم مِن مَغرورٍ اُفتُتِنَ بِطولِ أمَلِهِ وأفسَدَ عَمَلَهُ وقَطَعَ أجَلَهُ ، فَلا أمَلَهُ أدرَكَ ولا ما فاتَهُ استَدرَكَ)[2].
طول الأمل: هو أن يعتقد الشخص من حيث الوجود أنه باقٍ إلى مدة طويلة متطاولة، مع رغبته وشغفه في جميع لوازم ذلك الوجود والبقاء، والتي منها المال والأهل والدار والأصدقاء وغير ذلك، وهو صفة مذمومة ناتجة عن الشهوة عندما تغرر العقل بلذائذ الجهل، فالاعتقاد المذكور بطول البقاء راجع إلى سيطرة وتحكم جانب الجهل ، أمّا حبّ صاحب الأمل لجميع لوازم البقاء وميله إليه فهومن شُعَب حب الدنيا، وثباته في القلب راجع إلى تعويله واعتماده : إمّا على شبابه، فيستبعد قرب الموت مع الشباب، ولا يتفكر المسكين في أحوال من حوله من أقاربه وأصدقائه، وينسى أسباب وفياتهم التي حضر بنفسه تشييع جثامينهم الى تحت التراب، فهذا قتله المرض، وذاك دهسته سيارة، وأغلبهم بلا مقدمات وإنذارات سوى القرآن الكريم ونصائح أهل البيت (عليهم السلام) كما قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لقمان: 34 ، أو يعتمد على صحته وقوته. ويستبعد مجيء الموت فجأة لاغتراره بإقبال الدنيا عليه، ولا يتأمل ليدرك أن ذلك غير بعيد بل يحجزه جهله عن أوضح البديهيات.
إن الموت لا يتقيّد بزمان ولا مكان (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ) النساء: 78 ، (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ الله لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) يونس: 49.
ولو قلنا ببعد الموت فالمرض فجأة غير بعيد فإن المرض كالموت في عروضه وطروّه على الإنسان على حين غفلة، إذ كلّ مرض إنما يقع فجأة، وإذا مرِض لم يكن الموت بعيداً، فكم من مرض كان مرسالاً للموت، ومقدمة لوداع الإنسان دنياه، ولو تفكّر الإنسان الغافل، وعمل بما يعتقد من أنّ الموت ليس له وقت مخصوص ولا مكان معلوم، وهو شامل لجميع أفراد النوع من أطفال وشباب وشِيب وكهول، ومن شتاء وخريف وصيف وربيع، وليل ونهار، وحضر وسفر، لكان دائماً مستشعراً له غير غائب ولا غافل عنه، ولعَظُمَ اشتغالُه بالاستعداد له، لكن الجهل بهذه الأمور وحب الدنيا بعثاه على الغفلة وطول الأمل، فهو في الوقت الذي يظنّ أن الموت مدركُه وأنه يسعى بين يديه، لا يقدّر نزوله ووقوعه فيه، وفي الوقت الذي يشيّع فيه جنائز أحبائه، ينسى أن سيكون هو صاحب النعش يوماً ما، لأنّ هذه المواقف قد تكرّرت عليه، وصارت مألوفةً لديه، وأما موت نفسه، فلم يألفه لأنه لم يقع، وإذا وقع لا يقع دفعة أخرى بعده، فهو الأول وهو الآخر.
وأمّا حبّه لتوابع البقاء: من المال والدار والمراكب والضياع والعقار، فراجع إلى الالتذاذ بها في مدة طويلة، فيثقُل على قلبه مفارقتها، فيمتنع قلبه عن التفكّر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، إذ كل من كره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان لما كان مشغوفاً بالأماني الباطلة، وبالدنيا وشهواتها ولذاتها وعلائقها، فتتمنى نفسه أبداً ما يوافق مراده، ومراده البقاء في الدنيا، فلا يزال يتوهّمه ويقرّره في نفسه، ويقدّر توابع البقاء من أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفاً على هذا الفكر موقوفاً عليه، فيلهو عن ذكر الموت ولا يقدّر قربه، فإن خطر له في بعض الأحيان أمر الموت والحاجة إلى الاستعداد له، سوّف ذلك ووعد نفسه إلى أن يكبر فيتوب. وإذا كَبُر أَخّر التوبة إلى أن يصير شيخاً، وإذا صار شيخاً يؤخرها إلى أن يفرغ من عمارة هذه الضيعة، أو يرجع من سفر كذا، أو يفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير مسكن له، ولا يزال يسوّف ويؤخّر إلى أن يخطفه الموت في وقت لا يحتسبه، فتعظم عند ذلك بليّته وتطول حسرته، فهو يتناسى أهل النار وصياحهم من تسويفهم، والمسوّف المسكين لا يدري إن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غداً، وإنّما يزداد بطول المدّة قوة ورسوخاً، إذ الخائض في الدنيا لا يتصور له الفراغ منها قط، إذ ما قضى من أخذ منها لبانته، وإنّما فرغ منها من تركها.