غزوة بني المطلق

إن من الأمور الواضحة أن الدين الإسلامي لم ينتشر في الجزيرة العربية وما حولها فيما بعد، إلا بما قام به النبي(صلى الله عليه وآله) وخُلّص أصحابه من الجهاد والصبر والتضحية وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، لذا عندما نقرأ حياة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) تجدها مليئة بالمتاعب والأذى والأحداث حتى روي عنه(صلى الله عليه وآله): (ما أُوذي نبي مثلما أُوذيت)[1]، وذلك منذ نزول الوحي إليه (صلى الله عليه وآله) والى حين التحاقه بالرفيق الأعلى، فلقد خاض الكثير من الحروب، ومختلف المصادمات مع الكفار والمشركين من العرب واليهود وغيرهم، وتتفاوت الغزوات من حيث الأهمية، فمنها ما تكمن أهميتها من الناحية العسكرية، ومنها من حيث الكشف عن بواطن بعض أفراد الجيش، وغير ذلك، وغزوة بني المصطلق من الغزوات التي لها أهمية كبيرة، وذلك لوقوع كثير من الأحداث فيها كادت تعصف وتزعزع وحدة وانسجام المسلمين، وما ذاك إلا لكثرة ما خرج من المنافقين في صفوف جيش النبي(صلى الله عليه وآله)، إما طمعا بالغنائم، أو غير ذلك، لهذه الأسباب وغيرها نحاول الحديث عن هذه الغزوة، من عدة جوانب.

تسمية الغزوة:

لكون الغزوة حدثت مع قبيلة بني المصطلق وهم بطن من خزاعة، قال العيني في عمدة القاري: (بني المصطلق، بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح الطاء المهملة وكسر اللام وبالقاف: وهي بطن من خزاعة، والمصطلق هو ابن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، ويقال: إن المصطلق لقب واسمه جذيمة، بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة: ابن سعد بن عمرو، وعمرو هو أبو خزاعة، وقال ابن دريد: سمي المصطلق لحسن صوته، مفتعل من الصلق، والصلق شدة الصوت وحدته، من قوله عزوجل: (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ)[2]، ويقال: صلق بنو فلان بني فلان، إذا وقعوا بهم وقتلوهم قتلاً ذريعاً)[3].

كما تسمى المريسيع، ذكر الشيخ الكليني في الكافي: ((مريسيع) مصغر مرسوع: بئر أو ماء لخزاعة، وإليه تضاف غزوة بنى المصطلق، وذكر المؤرخون أنها حدثت في شعبان السنة السادسة)[4].

أسباب الغزوة:

هناك عدة من الأسباب أدت إلى تحرك النبي(صلى الله عليه وآله) واتخاذ قرار الحرب منها:

1) إن هذه القبيلة لها تحالف مع قريش ضد النبي(صلى الله عليه وآله)، وقد شاركت فعلا في الحروب إلى جانب قريش، وذكروا أنها كانت من أحابيش قريش، وذلك أَن بَني المُصطلق وبني الهَوْن بن خُزيمة اجتمعوا عند حُبْشيٌّ وهو جبل بأَسفل مكة، عَلَى سِتَّةِ أَميالٍ منها فحالفوا قريشاً، وتحالفوا باللَّه إِنَّا لَيَدٌ على غيرِنا ما سَجا لَيْلُ ووَضَحَ نهار وما أَرْسَى حُبْشيٌّ مَكانَه، فسُمّوا أَحابيش قُريش[5].

2) كون موقعها حاجزا عن وصول المسلمين إلى مكة.

3) وصول الأخبار إلى النبي(صلى الله عليه وآله) بأنهم يعدون العدة والعدد لغزو المدينة، واستنهاض من يشاركهم الهدف ذاته.

تحرك النبي(صلى الله عليه وآله):

من الصفات التي يتمتع بها النبي(صلى الله عليه وآله) القيادة الحكيمة، والحنكة الفائقة في معالجة المواقف إلى جانب غيرها من الصفات الأخرى، وهذا واضح من خلال معالجته(صلى الله عليه وآله) للمواقف، ومنها قضية بني المصطلق، إذ كان(صلى الله عليه وآله) قد شكل جهازاً استخبارياً منظماً لجمع المعلومات ورصد تحركات العدو، لذا بعث(صلى الله عليه وآله) أحد أصحابه للتحقق وبيان الأمر، وهذا درس عملي يضعه لنا(صلى الله عليه وآله)
للتعامل مع الأحداث، وعدم التسرع في اتخاذ القرار، ذكر الواقدي في المغازي: (فبعث(صلى الله عليه وآله) بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك، واستأذن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أن يقول، فأذن له، فخرج حتّى ورد عليهم ماءهم فوجد قوماً مغرورين قد تألّبوا وجمعوا الجموع، فقالوا: من الرجل؟ قال: رجل منكم قدمت لما بلغني عن جمعكم لهذا الرجل فأسير في قومي ومن أطاعني فتكون يدنا واحدة حتّى نستأصله، قال الحارث بن أبي ضرار: فنحن على ذلك فعجّل علينا، قال بُريدة: أركب الآن فآتيكم بجمع كثيف من قومي ومن أطاعني فسرّوا بذلك منه ورجع إِلى رسول اللّه فأخبره خبر القوم...)[6].

فندب(صلى الله عليه وآله) القوم للخروج، فأسرع الناس للالتحاق بالنبي(صلى الله عليه وآله) وفيهم ثلاثون فارسا، عشرة من المهاجرين، وفي هذه الغزوة خرج معه(صلى الله عليه وآله) بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غيرها قط، (ومِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ)، وما كان خروجهم رغبة منهم في جهاد أو إحدى الحسنيين، بل طمعا في الحصول على حطام الدنيا، وقرب المسافة، ولوثوقهم بانتصار النبي(صلى الله عليه وآله)، وذلك لعلمهم بأنه مؤيد من السماء، ومنصور بالرعب الذي يقذفه الله في صفوف المشركين، تقول أم المؤمنين جويرية- وذلك بعد زواجها بالرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)-: (أتانا رسول الله(صلى الله عليه وآله) ونحن على المريسيع، فأسمع أبي وهو يقول: أتانا ما لا قبل لنا به، قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله(صلى الله عليه وآله)) ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعرفت أنه رعب من الله عز وجل يلقيه في قلوب المشركين[7].

مسيره (صلى الله عليه وآله):

في أرض يقال لها بلقاء وجدوا عينا للمشركين، فعرضوا عليه الإسلام فأبى وفضّل الضلال على الهدى، قال اليوسفي الغروي في موسوعته: (فضرب عنقه، فذهب خبره إلى بني المصطلق فساء بذلك زعيمهم الحارث بن أبي ضرار ومن معه وخافوا خوفا شديدا، وتفرق عنه من كان قد اجتمع إليه من أفناء العرب حتى ما بقي منهم أحد سوى بني المصطلق)[8].

في المريسيع: لقيهم النبي(صلى الله عليه وآله) على ماء من مياههم يقال له:

في المريسيع:

 من ناحية قديد إلى الساحل، وقد اجتمعوا وتهيئوا للقتال، فصف رسول الله أصحابه، ثم أمر(صلى الله عليه وآله) أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد، واقتتلوا قتالا فهزم الله بني المصطلق ونَفَلْ النّبيّ(صلى الله عليه وآله) أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قال اليوسفي[9]: فقتل أمير المؤمنين(عليه السلام) رجلين من القوم هما مالك وابنه... وكان هو(عليه السلام) الذي سبى جويرية بنت الحارث أمير القوم، فجاء بها إلى النبي(صلى الله عليه وآله)، فاصطفاها النبي(صلى الله عليه وآله)، وأصاب رسول الله منهم سبيا كثيرا فقسمه في المسلمين.

جويرية أم المؤمنين:

يتمتع النبي(صلى الله عليه وآله) بسياسة حكيمة ورحمة كبيرة، فلا يرى فرصة للرحمة والمساعدة إلا واقتنصها، امرأة كريمة ابنة سيد قومها، وقعت في السبي، فيعتقها النبي(صلى الله عليه وآله)، ثم تأتي الخطوة الإيجابية الأخرى والتي كان لها الأثر الكبير في تغيير الأحداث، وهي جعل النبي(صلى الله عليه وآله) هذه المرأة من جملة زوجاته بعد إسلامها، فهو حفظ لماء الوجه، ونزع الآثار التي خلفتها المعارك، قال العاملي في الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام): (وفي المريسيع سبا علي(عليه السلام) جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية، ثم المصطلقية وهي التي تزوجها رسول الله(صلى الله عليه وآله))[10].

نعم أسلمت وأسلم أهلها، ذكر اليوسفي: (وبعد إسلام بقية القوم جاء الحارث أبو جويرية إلى النبي(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إن ابنتي لا تسبى، إنها امرأة كريمة، قال: اذهب فخيرها، قال: قد أحسنت وأجملت، وجاء إليها أبوها، فقالت له: اخترت الله ورسوله!)[11].

وقال الشيخ الطبرسي: (فلما بلغ الناس أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) تزوج جويرية بنت الحارث قالوا: أصهار رسول الله، فأرسلوا ما كان في أيديهم منهم، وأطلق جميع أسرى بني المصطلق رجالاً ونساء بفضل هذا الزواج المبارك، وبفضل سياسة النبي(صلى الله عليه وآله) الحكيمة، فما علم امرأة أعظم بركة على قومها منها)[12].

الله تعالى ينتصر لنبيه (صلى الله عليه وآله):

هناك من المسلمين من نطقوا الشهادتين ودخلوا الإسلام ولكنه لم يتأصل في نفوسهم، بل بقيت آثار الجاهلية في ممارساتهم وأفعالهم، ونجد هذا واضحاً في هذه الغزوة، فقد ذكر أرباب التاريخ والسير الذين تعرضوا لهذه الغزوة، أنه حصل تشاجر بين أحد المهاجرين والأنصار في قضية سقي الماء، ونادى كل منهم بقومه، وكادت الحرب أن تقع بينهم، وقد استغل هذه الحادثة المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي سلول، فأخذ يوجه كلاماً للأنصار بأنهم قد غُلبوا على أمرهم في ديارهم، وأصبحوا غير ذي منعة، بسبب إيوائهم للمهاجرين، وكان هناك من يسمع كلامه ويروج له، فكاد هذا الحدث أن يشرخ وحدة المسلمين آنذاك، وبالتالي يقضي على الإسلام، لولا تدخل النبي(صلى الله عليه وآله) وحسم الموقف. لكن نقول بألم وحرقة: إن هذه الوحدة التي أسسها النبي(صلى الله عليه وآله)، وسقاها أصحابه المنتجبون المؤمنون بدمائهم الزاكية، لم يحافظ عليها المسلمون، فسرعان ما تزاحموا على شق الصف الإسلامي وأزاحوا أهله عن مراتبهم، فما أحوجنا اليوم لموقف يرجع الحق إلى أهله، ويمحق النفاق وأهله، نعم أطلق بن أبي سلول كلامه فنزل قوله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[13]، وحين عرف ابن أبي سلول أن كلامه بلغ النبي(صلى الله عليه وآله) أتى النبي(صلى الله عليه وآله) فحلف بالله أنه لم يقل ذلك، فأنزل الله تعالى: (إذا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)[14]، وهنا جاء وجه أخر للمنافقين، يطلب من النبي(صلى الله عليه وآله)
قتل ابن سلول، إلا أن النبي(صلى الله عليه وآله) لم يلتفت إلى قوله، مما حدى بالنبي(صلى الله عليه وآله)
إلى الرحيل في ساعة لم يكن يرتحل في مثلها والعودة إلى المدينة.

توجيه القرآن الكريم للمجتمع الإسلامي بعد الغزوة:

نزلت سورة (المنافقون) بعدما رجع رسول الله(صلى الله عليه وآله) من غزوة بني المصطلق، في طريقهم إلى المدينة، فقد تحدثت السورة بإسهاب عن المنافقين، وأشارت إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم وفضحت أكاذيبهم، إلا أنها في الختام حذرت المؤمنين من الانشغال بزينة الدنيا ومتاعها، وحثت على الإنفاق، ويمكن لدارس هذه السورة أن يلاحظ عدة محاور مهمة منها:

1- تحدثت السورة الكريمة في البدء عن أخلاق المنافقين، وفضحت كذبهم في أقوالهم ووصفت حالهم، فابتدأت هذه السورة بإيراد صفات المنافقين التي من أهمها الكذب في ادعاء الإيمان، وحلف الأَيمان الكاذبة، وجبنهم وضعفهم وتآمرهم على النبي(صلى الله عليه وآله) وعلى المؤمنين، وصدهم الناس عن دين الله، قال تعالى: (إذا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ* وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[15].

2- ثم بينت الآيات عنادهم وتصميمهم على الباطل، وعصيانهم لمن يدعوهم إلى الحق وبينت مقالاتهم الشنيعة بالتفصيل خاصة ما قالوه في غزوة بني المصطلق من أنهم سيطردون الرسول والمؤمنين من المدينة، وأن العزة لهم، إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة الفظيعة.

قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ* سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ* هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ* يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)[16].

وهكذا كان المجتمع المدني يتربى بالأحداث، والقرآن الكريم يقوم بتوجيهه وتعليمه، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) يقوم بالإشراف على ذلك، فينبغي لنا أن نأخذ الدروس والعبر من هذه الأحداث التأريخية حتى لا نقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الأخرون ولنعرف العدو من الصديق والمؤمن من المنافق قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ)[17].

النبي(صلى الله عليه وآله) رائد الانسانية:

الله تعالى خلق الإنسان وأراد له الرفعة والسمو والكرامة، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ)[18]، ونلاحظ أنه لا يوجد شريعة أو قانون ودستور وضعي، يولي الإنسان أهمية كما أولاه الدين الإسلامي، ونجد هذا الشيء واضحاً من خلال أفعال وأقوال المعصوم(عليه السلام)، كما أنه لايقتصر الاحترام والتقدير على المسلمين فقط دون سواهم، بل حتى غير المسلم، كما أن الإسلام يرفض استغلال المسؤول نفوذه في تحقيق مآربه، وما أحوجنا اليوم إلى هذا الفكر وهذا التعامل، فلابد أن توجد عند الإنسان مبادئ وثوابت يتعامل بها مع المجتمع، فالمجتمع الذي يتعامل على أساس الالتزام بالعامل الديني والأخلاقي يرتقي ويسمو نحو الكمال، لكن نجد هناك من يتجاوز ويتطاول على القيم الإنسانية، وهذا بعينه حدث مع هذه القبيلة التي أسلمت، فقد كان النبي(صلى الله عليه وآله)يبعث بعض السرايا فيما حول مكة للدعوة وبيان الأحكام، ومنها البعثة إلى حي من بني المصطلق وكان عليها خالد بن الوليد المخزومي، وكان بين قومه وبينهم أحقاد وعداوات في الجاهلية، فلم يلتزم بأمر النبي(صلى الله عليه وآله) بدعوة الناس إلى القتال، فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا، ثم غدر بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، فلما انتهى الخبر الى النبي(صلى الله عليه وآله)استقبل القبلة، ثم قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد).

 ثم التفت(صلى الله عليه وآله) وقال لعلي(عليه السلام): يا علي، ائت بني جذيمة من بني المصطلق، فأرضهم مما صنع خالد، ثم رفع(صلى الله عليه وآله)قدميه فقال: يا علي، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك، فأتاهم علي(عليه السلام)، فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله، فلما رجع إلى النبي(صلى الله عليه وآله)، قال: يا علي، أخبرني بما صنعت. فقال: يا رسول الله، عمدت فأعطيت لكل دم دية، ولكل جنين غرة، ولكل مال مالاً، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة (الإناء الذي يلغ فيه الكلب) كلابهم وحبلة رعاتهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله، فقال(صلى الله عليه وآله): يا علي، أعطيتهم ليرضوا عني، رضي الله عنك يا علي، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي[19].

حادثة الإفك:

من عوامل الرقي والنجاح كون المجتمع يعيش في حالة انسجام يسودها الحب والاحترام المتبادل والصدق والأمانة، كما ينبغي الابتعاد عن كل ما يؤدي بشكل أو آخر الى ثلم العلاقة الطيبة، وفصم عرى الألفة والانسجام، وتعتبر عملية تحصين المجتمع بصورة عامة من الأمور التي اهتم بها الدين الإسلامي، لما لها من انعكاسات ايجابية ومؤثرة في مسيرة الإنسان، كما حذر من التصرفات اللامسؤولة والانجرار وراء الشائعات والشعارات الزائفة، فعلى الإنسان أن يبصر أين يضع نفسه، ولا ينزلق في دهاليز الظلمة ودعاة الباطل، ولعل زماننا اليوم لا يخلو من هذه الأمور، خصوصاً مع ما يمتلك المغرضون من الإمكانيات المتطورة، كما أن لنا دعوة إلى الاعتبار والاستفادة من تصرفات وعواقب الآخرين، وهي دعوة قرآنية، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ)[20]، فبين أيدينا حادثة وقعت في زمن النبي(صلى الله عليه وآله) حيث أدى غياب العامل الإيماني، من جهة وعدم الشعور بالمسؤولية عند البعض من جهة أخرى إلى رمي امرأة مؤمنة بالباطل، فقد ذكر المفسرون أن الآيات من 11-26 من سورة النور نزلت لتعالج هذه القضية، مما يبين لنا أهمية ذلك. والأفك هو الكلام المنحرف عن الحق المجانب للصواب، أو هو قلب الحق وصرفه عن وجهه. وعلى كل حال فقد اتُهم شخص بريء بعمل مخل بالعفة والشرف، وأن الشائعات كانت منتشرة في المدينة، كما يفهم من الدلائل الموجودة في هذه الآية أن هذه التهمة كانت موجهة لشخص له أهمية خاصة في المجتمع آنذاك، وأن مجموعة من المنافقين المتظاهرين بالإسلام أرادوا الإخلال بالمجتمع الإسلامي بترويجهم هذه الشائعة، فنزلت هذه الآيات، وتصدت لهذه الحادثة بقوة، ودفعت المنحرفين والمنافقين الحاقدين إلى جحورهم، وقد ذكرت هذه الحادثة بعض كتب العامة على أنها في خصوص عائشة بنت أبي بكر، إلا أن هذا لا يصمد أمام الدلائل والأحداث، وفي المقابل ذكرت كتب أتباع أهل البيت(عليهم السلام)وكتب العامة أنها في قضية اتهام أم المؤمنين مارية، قال القمي: (... عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: لما مات إبراهيم ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حزن عليه حزناً شديداً، فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟! فما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) علياً(عليه السلام) وأمره بقتله، فقال: يا رسول الله، إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمي في الوبر، أم أثبّت ؟! قال: لا بل اثبّت. فذهب علي(عليه السلام) ومعه السيف، وكان جريح القبطي في حائط، فضرب علي(عليه السلام) باب البستان، فأقبل جريح، ليفتح له الباب، فلما رأى علياً(عليه السلام)، عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعاً، ولم يفتح الباب .فوثب علي(عليه السلام) على الحائط، ونزل إلى البستان، واتبعه. وولى جريح مدبراً، فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة، وصعد علي في أثره، فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة، فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال، ولا ما للنساء، فانصرف علي(عليه السلام)إلى النبي(صلى الله عليه وآله) فقال: والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال، ولا ما للنساء. فقال: الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت(عليهم السلام))[21].

الإيمان والفسق:

ذكر الزمخشري: (أن النبي(صلى الله عليه وآله) بعث الوليد بن عقبة -أخا عثمان لأمه، وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعا ثم قال: هل أزيدكم ؟- مصدقا إلى بنى المصطلق، وكانت بينه وبينهم إحنة، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له فحسبهم مقاتليه، فرجع وقال لرسول الله(صلى الله عليه وآله): قد ارتدوا ومنعوا الزكاة، فغضب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهم أن يغزوهم، فبلغ القوم فوردوا وقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فنزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[22])[23].

ورد في تفسير الأمثل: (لقد جعل عزوجل (الفاسق) في مقابل (المؤمن) في هذه الآية، وهذا دليل على أن للفسق مفهوما واسعا يشمل الكفر والذنوب الأخرى، لأن هذه الكلمة أخذت في الأصل من جملة (فسقت الثمرة) إذا خرجت من قشرها، ثم أطلقت على الخروج على أوامر الله والعقل وعصيانها، ونعلم أن كل من كفر، أو ارتكب معصية فقد خرج على أوامر الله والعقل، ومما يجدر ذكره أن الثمرة ما دامت في قشرها فهي سالمة، وبمجرد أن تخرج من القشر تفسد، وبناء على هذا فإن فسق الفاسق كفسق الثمرة، وفساده كفسادها)[24].

 


[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج39، ص56.

[2] سورة الأحزاب: آية 91.

[3] عمدة القاري، الغيني: ج13، ص102.

[4] الكافي، الشيخ الكليني: ج5، ص47.

[5] راجع لسان العرب، ابن منظور: ج6، ص278.

[6] المغازي، الواقدي: ج1، ص405.

[7] راجع إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي: ج1، ص196.

[8] موسوعة تاريخ الإسلامي، اليوسفي الغروي: ج2، ص579.

[9] المصدر السابق: ج2، ص580.

[10] الصحيح من سيرة الإمام عليA، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج4، ص172.

[11] موسوعة تاريخ الإسلامي، اليوسفي الغروي: ج2، ص581.

[12] إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي: ج1، ص197.

[13] سورة المنافقون: آية 8.

[14] سورة المنافقون: آية1.

[15] سورة المنافقون: آية1-4.

[16] سورة المنافقون: آية5-8.

[17] سورة يوسف: آية111.

[18] سورة الإسراء: آية70.

[19] راجع الأمالي، الشيخ الصدوق: ص238، وصحيح البخاري، البخاري: ج8، ص118، وغيرهما.

[20] سورة يوسف: آية111.

[21] تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي: ج2، ص99.

[22] سورة الحجرات: آية6.

[23] الكشاف، الزمخشري: ج3، ص559.

[24] تفسير الأمثل، السيد مكارم الشيرازي: ج13، ص127.