ضوابط الإعلام في القرآن الكريم

لا يخفى أن الجانب الإعلامي بوسائله المتنوعة أصبح له تأثير شديد على المجتمع من الناحية الدينية والفكرية والتربوية والاجتماعية؛ ذلك لانهماك الأغلب في الاطلاع على الأخبار والأحداث وفي مختلف الاختصاصات والفنون، كونها أخبار مجانية لا تحتاج إلى جهد وتعب في الحصول عليها، بل هي تسعى إلى الناس سعياً.

وهذا الأثر البالغ للجانب الإعلامي لا يمكن وصفه بالسلبي ولا بالإيجابي، لأنه يرتبط بنوع وكيفية توجيهه نحو أهدافه، والغرض من تقديم ونشر الخبر للآخرين، أو تصدير فكر أو موقف معين، فإن كان الغرض إيجابياً كان الأثر إيجابياً وإلا كان الأثر سلبياً فهو سيف ذو حدين إن صح التعبير.  

 وبما أن الدعوة إلى الله تعالى ونشر الفضيلة وترويج الدين ونشر التعاليم الإسلامية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهام تحتاج إلى الجانب الإعلامي، لابد أن يقوم الإعلام بواجبه على أكمل وجه، ويوصل رسالته النبيلة، وذلك لا يكون إلا وفق ضوابط ومعايير يسير عليها الأداء الإعلامي لتعصمه عن الضلال والانحراف، ولو أمعنا النظر في الآيات القرآنية نجد الكثير من الضوابط المهمة والرئيسة في هذا الجانب المهم، منها:

أولاً: التثبت من الأخبار:

يحب الكثير من الناس أن يكون هو أول الناقلين للخبر، ويحبون أيضاً إعلام الآخرين بأخبار ليس من الواجب الاطلاع عليها، وهذه الأخبار قد تكون صحيحة وقد تكون إشاعةً وافتراءً، وللشائعات أثر خطير على الناس واستقرارهم؛ فهي تنشر المشاكل التي تفرِّق بين المسلمين، وتزرع الشحناء والبغضاء في المجتمع، ذلك أن الناس يَنقُلون الكلام دون تثبُّت منه، وهو عظيم عند الله جل وعلا.

ولعظم هذا الفعل وخطره على الفرد والمجتمع ذكر القرآن الكريم آية تضمنت توجيهاً مباشراً بخصوصه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).[1]

حيث وجّه اللّه‌ تعالى المؤمنين‌ ‌إذا‌ نقل لكم الفاسق خبراً أو حادثة أو موقفاً ما، فلا بد من التثبت من صدق نقله وحديثه، خصوصاً إذا كان للخبر المنقول لوازم ومعطيات تبتني عليه، سلوكية أو علمية، لأنه‌ ربما ‌کان‌ كاذباً فـ (تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالَةٍ)، فيعمل‌ ‌به‌ فتحصل كل لوازمه الفاسدة.

وفعلاً أن هذه الآية نزلت في حادثة كان النقل فيها غير صحيح كما ذكر المفسرون عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه واله) الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى بَنِي وَلِيعَةَ قَالَ وَ كَانَتْ بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُمْ شَحْنَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى بَنِي وَلِيعَةَ اسْتَقْبَلُوهُ لِيَنْظُرُوا مَا فِي نَفْسِهِ قَالَ فَخَشِيَ الْقَوْمَ فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ [يَا رَسُولَ اللَّهِ‌] إِنَّ بَنِي وَلِيعَةَ أَرَادُوا قَتْلِي وَ مَنَعُوا لِيَ [إِلَيَ‌] الصَّدَقَةَ فَلَمَّا بَلَغَ بَنِي وَلِيعَةَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَذَبَ الْوَلِيدُ وَ لَكِنْ [كَانَ‌] بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ شَحْنَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَخَشِينَا أَنْ يُعَاقِبَنَا بِالَّذِي بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ [رَسُولُ اللَّهِ‌] لَتَنْتَهُنَّ يَا بَنِي وَلِيعَةَ أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ [لَكُمْ‌] رَجُلًا عِنْدِي كَنَفْسِي يَقْتُلُ مُقَاتِلِيكُمْ وَ يَسْبِي ذَرَارِيَّكُمْ هُوَ هَذَا حَيْثُ تَرَوْنَ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى كَتِفِ [أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ‌] عَلِيِّ [بْنِ أَبِي طَالِبٍ ع‌] وَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْوَلِيدِ آيَةً يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‌ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ‌).[2]

ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أن هذا التوجيه في التثبت والتبين من الخبر وإن ذكرته الآية الكريمة بخصوص الفاسق لكنه يشمل أيضاً غيره لأن المناط في ذكر الفاسق هو قوة احتمال كذبه وكذب خبره، فإذا احتملنا عدم صدق خبر غير الفاسق لزم التثبت من خبره أيضاً، خصوصاً ما يتعلق بالأمور الخطيرة كالأعراض والجرائم وما يسبب نقله الفتن والضرر الكبير.

 ثانياً: اختيار التعابير الحسنة:

إذا عبرنا عن العامل في الجانب الإعلامي أنه داعي يتصدّى لبث الوعي بين الناس؛ فإنه يدخل في كل التوجيهات القرآنية التي تحث على الخطاب الحسن والتعبير اللين، لما له من التأثير في المتلقي، ومن تلك الآيات قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).[3]

وقوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً).[4]

حيث أنه وإن كان الدليل تاماً والحجة حاضرة، في إثبات أو نفي موضوع معين، فإن قوة التأثير ونوعه يبقى مرتبطاً بأسلوب الطرح صحيح وحسن المجادلة والمحاورة، البعيدة عن الغلظة والخشونة مع الطرف الآخر.  

لذا الآية  الكريمة لتقول: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والأحسن صيغة تفضيل من الحسن، فكلما كان ثمة طريق حسن ولسان ليّن كان هو الخيار الأمثل لطرح أي فكرة أو مسألة، مستنداً إلى مكارم الأخلاق والتعامل الإنساني، وليس ذلك مع الموافق في المذهب أو الرأي أو القبيلة والمدينة، بل يبقى هو الأسلوب الهادئ هو المختار حتى مع المعارضين، ذلك أن الشق الثاني من الآية الكريمة (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) تشير إلى أنه إذا ترك الناس القول الأحسن والتعبير اللين الهادئ في الكلام والمجادلة ف‍إن الشيطان ينزغ بينهم ويثير بينهم الفتنة والفساد.

ومن الجدير بالذكر في هذا المجال الإشارة إلى ضرورة إدراك عواقب الكلمة وآثارها، والالتزام بالكلام الإيجابي والبعد عن الكلام السلبي، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ).[5]

 

 

 


[1] الحجرات: 6.

[2] تفسير فرات الكوفي: ج1، ص427.  

[3] البقرة:83.

[4] الإسراء:53.

[5] إبراهيم: 24-26.