بسم الله الرحمن الرحيم
ولادة النور
حقَّ لفتى الإسلام العظيم أن لا يأتي إلى هذا الوجود إلا في مناقب أسنى من الثريا في علوها، وأقرب من إنكار الشانئ في دنوها، فقبل أن يخلق الله تعالى آدم (عليه السلام) بأربعة آلاف عام، كان النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) نورا واحدا بين يدي الله تعالى، قد أودعه سبحانه في صلب آدم بعد خلقه، ولم يزل ينقله من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام المطهرة حتى أقره في صلب عبد المطلب، فلما أخرجه من صلبه قسّم ذلك النور قسمين، قسم في صلب عبد الله وقسم في صلب أبي طالب[1].
ولما أذن الله تعالى بولادة أمير المؤمنين(عليه السلام) في هذه الدنيا، جعل محل ولادته في بيته الحرام الذي جعله قبلة للناس وأمنا، ولم يولد قبله ولا بعده أحد فيه، وقد روي عن يزيد بن قعنب في ذلك قوله: كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: (رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل(عليه السلام)، وإنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت علي ولادتي) قال: فرأينا البيت وقد انشق عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرُمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عز وجل، ثم خرجت بعد اليوم الرابع وبيدها أمير المؤمنين(عليه السلام) [2].
نبذة من مناقبه السنية:
ما عسى القلم أن يكتب في وصف رجل قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله): لو أن الغياض أقلام، والبحر مداد، والجن حساب، والإنس كُتّاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب(عليه السلام) [3]. وما عسى المادح أن يثني عليه بعد أن قال فيه (صلى الله عليه وآله): أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي[4]، ولو لم يكن في بيان مكانته الا قول الرسول(صلى الله عليه وآله): من كنت مولاه فهذا علي مولاه[5] لكفى.
ولأجل أن نتعطر بطيب ذكره المبارك، ارتأينا أن نمر على قبسات من نور سيرته المثلى وسلوكه الطاهر، لننال بذلك أجر ذكر فضائله الشريفة، ونكون ممن يقتدي بهديه الكريم، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى جعل لأخي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فضائل لا تحصى كثرة، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرا بها غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقى لتلك الكتابة رسم، ومن استمع فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر...[6]
طيب المعاشرة:
لقد ضرب أمير المؤمنين(عليه السلام) للمسلمين بصورة عامة ولأتباعه ومواليه بصورة خاصة أروع المناهج الإسلامية من خلال سلوكه العملي، فكان له أعظم الدور وأوضح الأثر في هذا المضمار، بحيث أطبقت الأحاديث الصحيحة المتسالم عليها من قبل كل المسلمين على أنه(عليه السلام) من أكثر الناس اقتفاء لسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وأشدهم التزاما بها، ومن الجوانب التي اشتهرت عنه(عليه السلام) في سيرته وسلوكه الشخصي، الجانب الأخلاقي الذي تعتبره الشريعة الإسلامية من أهم الأسس التي يجب أن يبني عليها الإنسان المؤمن مبادئه، فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) القدوة المثلى في الخُلُق الإسلامي الأمثل.
ولعل من الأمور التي عرفت عنه(عليه السلام) في هذا المجال بالذات: لين الجانب والتواضع والمقاربة لعموم الناس على ما هو عليه من سمو وعظمة، وعلى ما هم عليه من أخطاء وعلل، بل لقد سار فيهم بحسن العشرة إلى درجة أنه لم يكن يمتاز عنهم في شيء أصلا حتى بعد تسلمه للخلافة، قال صعصعة بن صوحان يصفه: كان فينا كأحدنا، لين جانب وشدة تواضع وسهولة قياد...[7]، وقال فيه ضرار بن ضمرة: رحم الله عليا، كان والله فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويقربنا إذا زرناه، لا يغلق له دوننا باب، ولا يحجبنا عنه حاجب...[8]
ولقد كان(عليه السلام) مضافا إلى ذلك يسير فيهم بصفة البشاشة وطلاقة المُحيّا، وقد تعارف عنه ذلك إلى درجة حاول معها المنحرفون أن يتخذوا من هذا السلوك الراقي مطعناً فيه، فقالوا: أن فيه دعابة، وحقّ لهم ذلك وهم مثال الجفاء والقسوة وخشونة الجانب، لأن طبعهم يأبى سنة الأنبياء والصالحين وسيرة النبي الكريم(صلى الله عليه وآله) الذي ورد عنه قوله: إني لأمزح ولا أقول إلا حقا[9].
وصدق القائل حين قال: (وكُلّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضحُ)، قال معاوية لقيس بن سعد: (رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة) فقال قيس: (نعم كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمزح ويبسم إلى أصحابه، وأراك تسر حسوا في ارتغاء وتعيبه بذلك، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين، قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى، ليس كما يهابك طغام أهل الشام)[10].
عبوديته لله تعالى:
أيمكن أن نجد بعد عبادة أمير المؤمنين (عليه السلام) عبادة عابد؟ أم نسمع بعد خشية سيد الوصيين (عليه السلام) خوف خاشع؟ وقد قيل للإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام): كيف عبادتك من عبادة علي، فقال: عبادتي منه كعبادته(عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله)[11] .
روي عن أبي الدرداء قوله: شهدت علي بن أبي طالب(عليه السلام) بشويحطات النجار، وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبَعُد عليَّ مكانه، فقلت: لحق بمنزله. فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجى وهو يقول: «إلهي، كم من موبقة حملت عني فقابلتها بنعمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك» فشغلني الصوت واقتفيت الأثر فإذا هو علي بن أبي طالب(عليه السلام) بعينه، فاستترت له، وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فزع إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله أن قال: «إلهي، أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي» ثم قال: «آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشريته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء» ثم قال: «آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى» ثم أنعم في البكاء فلم أسمع له حسا ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي ابن أبي طالب. فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (عليها السلام): «يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟» فأخبرتها الخبر فقالت: «هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله»[12].
وروي عن ضرار بن ضمرة يصف الإمام علي (عليه السلام) لمعاوية: ... ولو رأيته إذ مثل في محرابه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وهو قابض على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا، إلي تعرضت، أم إلي تشوفت، هيهات هيهات لا حاجة لي فيك، أَبَنْتُك ثلاثا لا رجعة لي عليك. ثم يقول: واه واه لبعد السفر، وقلة الزاد، وخشونة الطريق[13].
القوة والشجاعة:
إنه من أوضح الواضحات، وأبين البيّنات إطالة الكلام في وصف شجاعة أمير المؤمنين(عليه السلام) وقوته، فلقد ضجّ بهذه الحقيقة التاريخ ورضخ لها الأعداء قبل الأولياء، فقد أعد الله سبحانه وتعالى وليه علي بن أبي طالب(عليه السلام) إعدادا جعله بحق السيف الحارس لدينه والعضد المدافع عن نبيه، وصار ضرغامه الذي يفتخر المشركون بقتلاهم الذين سقطوا بحد سيفه، لا يثبت له شجاع ولا يطيق هيبته محارب، إذا مشى إلى الحرب هرول، وإذا أمسك بذراع رجل لم يستطع أن يتنفس، وما صارع أحدا إلا صرعه.[14]
وهو الذي قلع باب خيبر الذي عجز عنه الرجال الأشداء، وهو القائل: وَالله لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا، وَلَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا.[15]
روي عن جابر بن عمير الأنصاري أنه قال في علي (عليه السلام) يوم الهرير من حرب صفين: فلا والذي بعث محمدا بالحق نبيا، ما سمعنا رئيس قوم منذ خلق الله السموات والأرض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب، إنه قتل - فيما ذكر العادون- زيادة على خمسمائة من أعلام العرب، يخرج بسيفه منحنيا فيقول: (معذرة إلى الله وإليكم من هذا، لقد هممت أن أفلقه، ولكن يحجزني عنه أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي» وأنا أقاتل به دونه(صلى الله عليه وآله) قال الراوي: فكنا نأخذه فنقومه، ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف، فلا والله ما ليث بأشد نكاية منه(عليه السلام)في عدوه[16].
علمه وحكمته:
ما عسى القائل أن يقول في علم أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مدح فيه يغني عن كل مدح وبيان، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله لعلي(عليه السلام): أنا مدينة العلم وعلي بابها، وقال(صلى الله عليه وآله): أعلم أمتي علي بن أبي طالب[17].
وقد تفجر هذا العلم الذي اندمج عليه الإمام علي(عليه السلام) عن تراث غزير وافر عظيم الأثر، تمثل في الأحاديث والأقوال التي وردت عنه(عليه السلام) في مضمار العقيدة والفقه والأخلاق والحكمة، امتزجت ببلاغة المعنى وفصاحة الجمل، وكان كتاب (نهج البلاغة) أحد الشواهد على هذه الحقيقة، ويطيب لنا أن نورد مقتطفات من الحكم القصار التي وردت في كتاب نهج البلاغة، لنقف على نموذج من هذا العلم المحمدي العلوي الاصيل:
قَال(عليه السلام): كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلَّا وِعَاءَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ بِهِ.
قَالَ(عليه السلام): إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ.
قَالَ(عليه السلام): لَا يَتْرُكُ النَّاسُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لِاسْتِصْلَاحِ دُنْيَاهُمْ إِلَّا فَتَحَ الله عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ.
قَال(عليه السلام): مَنْ قَصَّرَ فِي الْعَمَلِ ابْتُلِيَ بِالْهَمِّ وَلَا حَاجَةَ لِلَّهِ فِيمَنْ لَيْسَ لِلَّهِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ نَصِيبٌ.
قَالَ(عليه السلام): عَاتِبْ أَخَاكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَارْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ.
قَالَ(عليه السلام): احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ.
قَال(عليه السلام): أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَى الْجَاهِلِ.
قَالَ(عليه السلام): يَا ابْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَ.
قَالَ(عليه السلام): شَارِكُوا الَّذِي قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الرِّزْقُ فَإِنَّهُ أَخْلَقُ لِلْغِنَى وَأَجْدَرُ بِإِقْبَالِ الْحَظِّ عَلَيْهِ.
قَالَ(عليه السلام): الْحَجَرُ الْغَصِيبُ فِي الدَّارِ رَهْنٌ عَلَى خَرَابِهَا.
قَال(عليه السلام): أَحْسِنُوا فِي عَقِبِ غَيْرِكُمْ تُحْفَظُوا فِي عَقِبِكُمْ.
قَالَ(عليه السلام): مَنْ بَالَغَ فِي الْخُصُومَةِ أَثِمَ وَمَنْ قَصَّرَ فِيهَا ظُلِمَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِيَ الله مَنْ خَاصَمَ.
إن التعرف على سيرة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وأخلاقه ومناقبه وأقواله أمر ضروري جدا لا غنى للمرء المسلم عنه، لأن هذه المعرفة تؤثر بشكل مباشر في معرفة سيرة وأخلاق ومناقب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأن الفرع الكريم يدل على الأصل العظيم، وعلي بن أبي طالب(عليه السلام) أخو الرسول وربيبه ووزيره وخليفته وصهره، كما أنهما من نور واحد، ولن نجد أحدا من الناس له من القرابة القريبة والصلة الشديدة بخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) أكثر من هذا البطل الهمام الذي جعل الله تعالى ولايته ومحبته فرضا على العباد ومنجاة في يوم المعاد.. علي بن ابي طالب(عليه السلام).
لتحميل الملف اضغط هنا
[1] الخصال: ص640.
[2] الأمالي: ص194.
[3] المناقب للخوارزمي: ص32.
[4] الكافي: ج8، ص107.
[5] الامالي: ص184.
[6] كشف الغمة: ج1، ص109.
[7] كتاب الأربعين: ص420.
[8] الأمالي: ص724.
[9] المعجم الكبير: ج12، ص299.
[10] بحار الأنوار: ج41، ص147.
[11] كشف الغطاء: ج1، ص16.
[12] الأمالي: ص137.
[13] الأمالي: ص724.
[14] جواهر المطالب في مناقب الإمام علي(عليه السلام): ج1، ص36.
[15] نهج البلاغة: ص73.
[16] شرح نهج البلاغة: ج2، ص210.
[17] ينابيع المودة للقندوزي: ج1، ص216.