قوله تعالى: (...... وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[1].
دين الإسلام دين المثل الرفيعة، والأخلاق السامية، والآداب العظيمة؛ إنه الدين الذي يربّي أتباعه على أكمل الأخلاق، وأحسن الآداب، ويحرص على الرقي بالمسلم إلى آفاق الجمال والكمال.
وحديثنا في هذا العدد عن خلق نهى عنه الإسلام، وحذّر منه الدين؛ حرصاً على همّة النفس، ورفعة الفكر، ورونق الروح، ووضاءة المُثل، إنه خُلُقٌ قلّ أن يسلم منه إنسان، أو يخلو منه مجتمع، ذلك هو اللغو.
فالمسلم الحق يجاهد نفسه، ويبذل مل في وسعه للترقي لكل محمدة، والبعد عن كل منقصة؛ ولكن مع الأسف أصبح اللغو سمة لكثير من الناس في مجالسهم ومنتدياتهم، ولقاءاتهم ومسامراتهم، وأحاديثهم ومقالاتهم؛ بالخوض فيما لا يعنيهم، أو الحديث عما لا يفيد، أو تضييع الأوقات فيما لا يغني.
لذلك تصدت الشريعة المقدسة للردع عنه في الآيات والروايات ومن هذه الآيات الآية محل البحث حيث يشير تعالى في هذه الآية إلى صفة رفيعة من صفات المؤمنين وهي الصفة العاشرة في سورة الفرقان، وهي امتلاكهم الهدف الإيجابي في الحياة، فيقول: (وإذا مروا باللغو مروا كراماً) والمراد بالمرور باللغو، المرور بالذين يمارسون اللغو، ويشتغلون به، فلا يتوقفون عندهم ليستمعوا إليهم، أو ليخوضوا معهم فيه، بل يعرضون عنه ويتابعون طريقهم إلى ما يريدون تنزّهاً عن ذلك مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم في لغوهم، لأن الإِنسان المؤمن لا يفكر في الحياة إلا من موقع الحصول على الفائدة في الدنيا والآخرة، فلا يتوقف ولا يستغرق في ما لا فائدة فيه ولا منفعة لنفسه وللآخرين وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، أوضحه جل وعلا بقوله: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين)[2].
فالمؤمنون لا يحضرون مجالس الباطل، ولا يتلوثون باللغو، ومما يؤذيهم في الدنيا سماع اللغو، ومجالس اللهو، وإهدار الوقت، وتلطيخ أجواء اللقاءات والمنتديات بكلام تافه، أو لغو بارد، أو لهو مضل، أو زور مقيت؛ لأن أرواحهم زكية، ومشاعرهم نقية، وهممهم عالية، ومن كان كذلك فلا أشد عليه مضاضة وهماً وغماً من مجالس اللغو، ومراتع الضياع، فكان جزاء هذا السمو الفوز بجنان عالية، لا يسمعون فيها لاغيه قال تعالى: (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً)[3]، فمن تمام نعيم أهل الجنة أن الله نفى عن أهلها سماع اللغو، قال تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّاَ)[4]، وقال تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)[5]، وقال تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا)[6].
ونفي اللغو كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم، فأكمل وصف النعيم بذلك، وهي نعمة روحية؛ فإن سلامة النفس من سماع ما لا يُحَب سماعه، ومن سماع ما يُكره سماعه من الأذى نعمة براحة البال، وشغل بسماع المحبوب.
وقد حدثنا القرآن عن صفة من صفات الكفار والمشركين وأعداء الدين، وهي أنهم إذا سمعوا القرآن يبتكرون أنواعاً من اللغو ليصرفوا الناس عنه، ويحولوا بينهم وبينه، وتلك هي سمة لكل منافق وضال وعدو للحق والهدى أن يشوش على الكلام الحق بكل سبيل، وكل وسيلة، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[7].
ومع الالتفات إلى أن "اللغو" يشمل كل عمل لا ينطوي على هدف عقلائي، فإن ذلك يدل على أن "عباد الرحمن" يتحرّون دائماً الهدف المعقول والمفيد والبنّاء، وينفرون من اللاهدفية والأعمال الباطلة، فإذا اعترضهم هذا النوع من الأعمال في مسير حياتهم، مرّوا بمحاذاتها مرور اللامبالي، ولا مبالاتهم نفسها دليل على عدم رضاهم الداخلي عن هذه الأعمال، فهم عظماء بحيث لا تؤثر عليهم الأجواء الفاسدة ولا تغيرهم.
ولا شك أنّ عدم اعتنائهم بهذه الأمور من جهة أنّهم لا طريق لهم إلى مواجهة الفساد والنهي عن المنكر، وإلاّ فلا شكّ أنّهم سوف يقفون ويؤدون تكاليفهم حتى المرحلة الأخيرة[8].
أيها المؤمنون: إذا كانت هذه خطورة اللغو، وتلك سمة أربابه، بغيض إلى الله، بغيض إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) بغيض إلى المؤمنين؛ نُزِّهَتْ عنه الجنة، فما بالكم بضياع الأوقات في ذنوب واضحة، ومنكرات بينّة؟ وما بالكم بشغل الجوارح فيما نهى الله عنه، وحذر منه، من معاصٍ بيّنة، وذنوب جليّة، ومنكرات بغيضة؟.
فكم يضيع من أوقاتنا وكم شغلت أبصارنا وأسماعنا بما يبغضه الحق، ويأباه الدين، ويتنافى مع الخُلق فلنسمُ بأرواحنا وأقوالنا وأفكارنا ومجالسنا عن كل نقيصة، فالعمر غنيمة، والحياة فرصة، والأنفاس محدودة، والأيام معدودة.
مجلة بيوت المتقين العدد (23)