(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)[1]
التفسير:
هنا يضرب القرآن مثلا آخر يبين حاجة الإنسان الشديدة إلى الأعمال الصالحات يوم القيامة، وكيف أن الرياء والمن والأذى تؤثر على الأعمال الصالحات فتزيل بركتها.
ويتجسد هذا التمثيل في صاحب مزرعة مخضرة ذات أشجار متنوعة كالنخيل والأعناب، وتجري فيها المياه بحيث لا تتطلب السقي، لكن السنون نالت من صاحبها وتحلق حوله أبناؤه الضعفاء، وليس ثمة ما يقيم أودهم سوى هذه المزرعة، فإذا جفت فلن يقدر هو ولا أبناؤه على إحيائها، وفجأة تهب عاصفة محرقة فتحرقها وتبيدها.
في هذه الحالة ترى كيف يكون حال هذا العجوز الهرم الذي لا يقوى على الارتزاق وتأمين معيشته ومعيشة أبنائه الضعفاء؟ وما أعظم أحزانه وحسراته!.
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ...).
إن حال أولئك الذين يعملون عملاً صالحاً ثم يحبطونه بالرياء والمن والأذى أشبه بحال من تعب وعانى كثيراً حتى إذا حان وقت اقتطاف النتيجة ذهب كل شيء ولم يبق سوى الحسرات والآهات.
وتضيف الآية: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ). لما كان منشأ كل تعاسة وشقاء - وعلى الأخص كل عمل أحمق كالمن على الناس- هو عدم أعمال العقل والتفكير في الأمور، فإن الله في ختام الآية يحث الناس على التعمق في التفكير في آياته.
حقائق قرآنية:
1- هذه الأمثلة بالتوالي كل واحدة منها تدل على الأمور الزراعية اللطيفة، لأن هذه الآيات لم تنزل على أهل المدينة الذين كانوا زراعاً فحسب، بل أنها نزلت على جميع الناس، على أية حال كانت الزراعة تشكل جانباً من حياتهم.
2- يستفاد من: (وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ)، إن الإنفاق في سبيل الله ومد يد العون للمحتاجين أشبه بالبستان اليانع الذي ينتفع بثمره صاحبه وأبناؤه أيضاً.
ولكن الرياء والمن والأذى لا تحرم صاحبه وحده من ثمرات عمله، بل أن ذلك يحرم حتى أبناءه والأجيال التالية من بركات تلك الأعمال الصالحات، وهذا دليل على أن الأجيال القادمة تشارك الأجيال السابقة في الانتفاع بثمرات العلم الطيب.
وهو كذلك أيضا على الصعيد الاجتماعي، إذ أن المحبوبية والثقة التي ينالها الآباء نتيجة لأعمالهم الصالحة بين الناس، وتكون خير رأسمال لأبنائهم من بعدهم.
3- عبارة: (إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ)، قد تكون إشارة إلى رياح السموم التي تحرق الزرع وتجفف المياه، أو الرياح التي تكتسب الحرارة من المرور على الحرائق فتكتسح معها النيران المحرقة وتحملها إلى مناطق أخرى، أو قد تكون إشارة إلى العواصف التي تصاحبها الصواعق فتصيب الأرض وتحيلها إلى رماد، إنها على كل حال إشارة إلى إبادة سريعة[2].
مجلة بيوت المتقين العدد (83)