قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ.....)[1].
في متابعة للآيات الماضية في سورة الفرقان التي ذكرت خصائص عباد الرحمن، تشرح هذه الآية: الصفة الرفيعة التاسعة لهم، وهي: (أنهم لا يشهدون الزور)، والزور لغة: من الميل ومنه الزور بالفتح، ومنه: زرت فلاناً، إذا ملت إليه، وعدلت إليه.
والفعل (شهد) يستعمل بمعنى حضر، وهو أصل إطلاقه كقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)[2]، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه، كقوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا)[3]، لذلك كان للمفسرين في هذه الآية تفسيران:
التفسير الأول: اعتبر بعضهم ((الزور" بمعنى الشهادة بالباطل؛ لأن ((الزور" لغة بمعنى التمايل والانحراف، وحيث أن الكذب والباطل والظلم من الانحرافات، فإن ((الزور" يطلق عليها، والشهادة هي نقل الأمر على حقيقتِهِ والإدلاء به على الحالةِ التي وقع بها دون تبديل أو تغيير أو تحريفٍ.
وشهادة الزور هي الكذب المتعمد في الشهادة، لإبطال الحق وكذلك كتمان الشهادة لإبطال الحق، والله سبحانه يقول في كتمان شهادة الحق (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)[4]، فشهادة الزور هي أن يشهد الإنسان بغير الحق.. بخسا لإنسان أو لأكل مال بالباطل أو لحبس آخر بغير حق، والمعنى أن المؤمنين لا يؤدّون شهادة الزور لما في ذلك من تضييع الحقوق، والإعانة على الظلم.. بل لا يشهدون إلا بما رأوا.
فكم من حقوق ضُيّعت؟ وكم من حُرمات انتُهكت؟ وكم من أعراض أُهينت؟ وكم من دماء أُريقت؟ وكم من أرواح أُزهقت؟ وكم من شعوب اضطُهدت؟ ... وكم وكم بسبب كتمان الناس شهادة كان ينبغي أن تقال، واليوم من نظر إلى واقع الناس وجد أن شهادة الزور من أهم الأمراض الخطيرة التي هي منتشرة بين الناس للأسف وهي تنافي العدل وترسّخ الظلم في المجتمع وتبخس حقوق الآخرين.
ونظرا لما لشهادة الزور من أضرار ومخاطر على الأفراد والمجتمعات فقد ورد ذمّها في كتاب الله وفي السنة الشريفة، فقد ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أنه قال:
(أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِالله وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، ثم قَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْنا: ليته سكت)[5]، أي شفقةً عليه وكراهيةً لما يزعجه.
التفسير الآخر: هو أن المقصود من ((الشهود هو "الحضور" يعني أن عباد الرحمن لا يتواجدون ولا يحضرون في مجالس الباطل.
وفي بعض الروايات التي وردت عن طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فسّرت الزور ب "الغناء" أي تلك المجالس التي يتم فيها إنشاد اللهو مصحوبا بأنغام الآلات الموسيقية أو بدونها، فقد ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(عليه السلام) قَالَ: (فِي قَوْلِه عَزَّ وجَلَّ: (والَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قَالَ الْغِنَاءُ)[6].
لا شك أن مراد هذا النوع من الروايات ليس هو تحديد مفهوم "الزور" الواسع ب "الغناء"، فالغناء واحد من مصاديقه البارزة، إنه يشمل سائر مجالس اللهو واللعب وشرب الخمر والكذب والغيبة وأمثال ذلك.
فيكون معنى الآية، أن من صفات عباد الرحمن الفرار من المجالس أو الأماكن التي يقع فيها الزور بكل فروعه، وألوانه.. ترفّعا منهم عن حضور مثل هذه المجالس.
فكل مجلسٍ فيه دعوةٌ باطلة لا يشهدونها، وكل مجتمعٍ يزعم بأنه مجتمعٍ راقٍ؛ وفيه اختلاطٌ محرم، هذا باطلٌ وزور، باطلٌ أُلْبِسَ لباس الحق، هذا الباطل المؤمنون الصادقون لا يشهدونه، أحياناً دعوةٌ باطلة ينبغي أن لا تحضرها، أحياناً سلوكٌ باطل ينبغي أن لا تكون فيه، مجتمعٌ منحرف ينبغي أن لا تجالسهم، مكان فيه معاصٍ كثيرة ينبغي أن لا تكون فيه، هذا زور تحت اسم الحضارة والرفاه والتقدم، تحت اسم أن هذا اللقاء لقاء ودي ولقاء بريء بين الجنسين، هذا باطل وزور ينبغي أن لا تشهده.
كلمة بريء، وكلمة مَرِن، وكلمة واقعي، وكلمة منفتِح، هذه كلمات كلها كلمات تغطي الباطل بألفاظ مقبولة.
هذان تفسيران لهذه الآية الشريفة ولا يستبعد أن يجتمع كلا التفسيرين في معنى الآية، وعلى هذا فعباد الرحمن لا يؤدّون الشهادة الكاذبة، ولا يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة، ذلك لأن الحضور في هذه المجالس - فضلا عن ارتكاب الذنب - فإنه مقدمة لتلوث القلب والروح[7].
الغناء من الزور:
تقدّم أن بعض الروايات حددت مفهوم "الزور" الواسع بـ"الغناء"، ونظرا لتفشي هذا الخلق الرذيل في المجتمع أحببنا تسليط الأضواء عليه من خلال الروايات الشريفة لأهل البيت (عليهم السلام):
فعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (الْغِنَاءُ عُشُّ النِّفَاقِ)[8].
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: (سَمِعْتُه يَقُولُ الْغِنَاءُ مِمَّا وَعَدَ الله عَزَّ وجَلَّ عَلَيْه النَّارَ....)[9].
وعَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فَقَالَ لَه رَجُلٌ: بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي إِنَّنِي أَدْخُلُ كَنِيفاً لِي ولِي جِيرَانٌ عِنْدَهُمْ جَوَارٍ يَتَغَنَّيْنَ ويَضْرِبْنَ بِالْعُودِ، فَرُبَّمَا أَطَلْتُ الْجُلُوسَ اسْتِمَاعاً مِنِّي لَهُنَّ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: والله مَا آتِيهِنَّ إِنَّمَا هُوَ سَمَاعٌ أَسْمَعُه بِأُذُنِي، فَقَالَ: للهِ أَنْتَ أمَا سَمِعْتَ الله عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: (إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْه مَسْؤُولاً)، فَقَالَ: بَلَى والله لَكَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْ بِهَذِه الآيَةِ مِنْ كِتَابِ الله مِنْ أَعْجَمِيٍّ ولَا عَرَبِيٍّ، لَا جَرَمَ أَنَّنِي لَا أَعُودُ إِنْ شَاءَ الله وأَنِّي أَسْتَغْفِرُ الله، فَقَالَ لَه: قُمْ فَاغْتَسِلْ وسَلْ مَا بَدَا لَكَ، فَإِنَّكَ كُنْتَ مُقِيماً عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، مَا كَانَ أَسْوَأَ حَالَكَ لَوْ مِتَّ عَلَى ذَلِكَ، احْمَدِ الله وسَلْه التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَه، فَإِنَّه لَا يَكْرَه إِلَّا كُلَّ قَبِيحٍ، والْقَبِيحَ دَعْه لأَهْلِه فَإِنَّ لِكُلٍّ أَهْلا [10].
وعَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَال: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): (بَيْتُ الْغِنَاءِ لَا تُؤْمَنُ فِيه الْفَجِيعَةُ ولَا تُجَابُ فِيه الدَّعْوَةُ ولَا يَدْخُلُه الْمَلَكُ)[11].
عَنْ عَنْبَسَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (اسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ واللهوِ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ)[12].
مجلة بيوت المتقين العدد (22)