اخترنا هذا العنوان لأنه يرتبط باختيار الإنسان، فإنّ الأحكام الشرعية فيها مبادئ - أي مصالح ومفاسد - تستدعي القيام بأفعال معينة، أو تركها، وهذه المبادئ تحرك الإنسان نحو الأفعال، فالوجوب يكشف عن إرادة شديدة مستندة إلى وجود مصلحة بدرجة عالية بحيث لا تقبل الترخيص بترك العمل وتضييع هذه المصلحة.
وهكذا الحرمة تكشف عن مبغوضية شديدة مستندة إلى وجود مفسدة بدرجة كبيرة بحيث لا تقبل الترخيص بالفعل.
وكذلك الاستحباب والكراهة يتعلقان بمصلحة ومفسدة، ولكنها أضعف درجة بحيث يسمح المولى معها بترك المستحب وارتكاب المكروه.
وأما الإباحة فهي تعبر عن مساواة الفعل والترك في نظر المولى، لكن الكثير من الناس فهموا هذه المساواة أن الله تعالى أعطى حرية مطلقة عامة في المباحات، بلا ضوابط أو قواعد تحكمها ولا مبادئ تحرك الإنسان نحو فعل معين أو تركه.
ونتيجة لهذا المفهوم الخاطئ وقع الكثير في الشبهات، وارتكب محاذير تؤثر على شخصيته وثقافته ومكانته، ودوره في المجتمع، تحت غطاء أنها أفعال غير محرّمة وجائزة شرعاً.
والحقيقة أن الأفعال المباحة حتى وإن كانت غير مقيّدة بالوجوب أو الحرمة إلا أنها ليست خالية من قيودٍ أخرى، منها عقلائية، ومنها اجتماعية، ومنها عرفية، وتعاليم إسلامية كثيرة وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) تضع الجانب السلوكي للإنسان على المسار الصحيح، وهي وإن كانت تمثل أموراً عامة، إلا أنها تؤثّر على سلوك الفرد فتحرّكه - لا على المستوى الشرعي، والاقتصار على دائرة الحلال والحرام- وتحثه على هذا الفعل أو ترْكه.
ومن هذه الضوابط الحياء، فهي صفة تسهم في بناء حالة إنسانية في المجتمع، وتحرّكه نحو المودة والاحترام، وترسم بُعداً خُلُقياً يساعد على التأدّب بأدب الله تعالى، وقد أثنى الأئمة الأطهار(عليهم السلام) كثيراً على صفة الحياء في أحاديث كثيرة توضّح أهميتها وفضلها في السلوك، فيشير أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى دور الحياء في دفع الإنسان نحو العمل الجميل، ووضع الحاجز الكبير بينه وبين الفعل القبيح، في حديث له(عليه السلام): «الحياء يصد عن الفعل القبيح»[1]، ويقول: «الحَياءُ سَبَبٌ إلى كُلِّ جَميلٍ»[2]، كما أن الحياء الإيجابي يشمل الحياء من الله تعالىٰ، والنفس، والمجتمع، والقانون، والذي يحقق آثاراً صالحة في الفكر والسلوك.
ومن هذه الضوابط أيضاً عدم مخالفة السلوك العرفي، والعُرف بمعنى بسيط هو مجموعة من المفاهيم أو المعايير أو المقاييس الاجتماعية المتفق عليها أو المقبولة بشكل عام، والتي كثيرًا ما تأتي في صورة (عادة)، وقد تتحول أنواع معينة من القواعد أو العادات العرفية إلى شبه قانون، صورة قانون غير مكتوب، يُتسالم عليه في المجتمع، ويختلف من مجتمع لآخر، وغالباً، يتعلّق بعادات الملبس والمأكل، وبعض العلاقات والمناسبات الاجتماعية.
هذا الأدب المتعلّق بمراعاة عدم مخالفة السلوك العرفي هو أحد الأمور التي توجّه الإنسان نحو اختيار الفعل أو الترك في الأمور المباحة، فيحكم العرف والمجتمع على سلوك ما مباح أنه قبيح معيب يُلام الفرد على فعله ويُعاتب، أو أنه حسن جميل محبوب.
النتيجة أن حكم الشرع بإباحة بعض الأفعال لا يعني الحرية العشوائية في الاختيار، والتساوي من حيث الفعل والترك، بل ذلك يرجع إلى البعد الأخلاقي الذي يحكم المجتمع، ويرسم له السلوك في أغلب المواقف الحياتية.
المصدر: مجلة ولاء الشباب العدد (35)