ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: (أوصيكم بالطهارة التي لا تتمّ الصلاة إلا بها...)[1]، والمراد بالطهارة الموصى بها هنا: الطهارة الظاهرية، أي الوضوء المفصّل في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ... مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[2].
تُقسّم القذارة إلى معنوية ومادية، وكلتاهما نَقْصٌ يشين الشخص ويسقطه عن الكمال، فيهبط في مستوى الدناءة والخِسّة، وإن كانت القذارة المعنوية أهبط جهةً وأخسّ درجةً، والفارق بينهما: أن المادية منها تنكشف للعين بأوّل نظرة حيث ملامحها أبين فيمجها النظر، ويزدري صاحبها فيكون الاجتناب عنها أسرع، والمعنوية لا تنكشف إلا عند التجربة حيث تجلو خفايا النفس وتظهر تعاريج الضمير.
والإسلام يحرص الحرص كله على تطهير المجتمع من رواسب القذارة، فيرشده إلى مواضع الطهارة وكيفيتها، ويؤكّد على ضرورة النقاء، ولزوم التنظيف المستمرّ للقلب والجوارح والأعضاء على حدّ سواء.
فالطهارتان مطلوبتان على الدوام، وذلك بأن يداوم على الوضوء المستحب إضافة إلى الواجب، باعتباره أمراً راجحاً حتى قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (إن استطعت أن تكون أبداً على وضوء فافعل...)[3]، وعنه(صلّى الله عليه وآله): (الوضوء نصف الإيمان)[4]، حتى يسهل عليه تحصيل النصف الثاني من الإيمان وهو أن يأتي الإنسان بما أراده الله تعالى منه ملتزماً خط الاستقامة والتقوى ومطهّراً نفسه من دنس الذنوب والعيوب والرذائل، فتكون التقوى هي الطَهور الباطني للإنسان المؤمن والماء طهوره الظاهري بكلا قسميه المادي والمعنوي، والمسلمون حيث كانوا في موضع أحكام الشريعة، ملتزمين بها، ومستنِّين بمناهجها، كانت أخلاقهم ألطف، ومشاعرهم أطهر، حتى إذا ما تخلّوا عن قرآنهم وحديثهم، وتركوا العمل بهما، إذا هم يرتكسون في بؤرة القذارة، ويرتطمون في أوحال الدناءة، فتراهم ينغمسون في الدنيا ولذاتها وينسون أو يتناسون الآخرة والعمل لها.
وقد أكدت الشريعة الإسلامية على أن للطهارة المعنوية آثاراً على الفرد في الدنيا والآخرة والتي منها:
1. المغفرة وخروج الخطايا: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (إذا توضّأ الرجل المسلم خرجت خطاياه من سمعه وبصره ويديه ورجليه، فإن قَعَدَ قَعَد مغفوراً له)[5]، وفي حديث آخر: (إذا توضّأ العبد تَحاطّ عنه ذنوبه كما تَحاطّ ورق هذه الشجرة).[6]
2. ذهاب الفقر: عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام): (الوضوء قبل الطعام وبعده يذهبان الفقر)[7].
3. نور يوم القيامة: عن مولانا الإمام الهادي(عليه السلام): (لما كلّم الله عزَّ وجلَّ موسى بن عمران(عليه السلام): قال: إلهي فما جزاء من أتمّ الوضوء من خشيتك؟ قال: أبعثه يوم القيامة وله نور بين عينيه يتلألأ)[8].
4. له ثواب الصلاة: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (من أحسن الطهور ثم مشى إلى المسجد، فهو في صلاة ما لم يحدث).[9]
5. له كفلان من الأجر: في الحديث: (من أسبغ الوضوء في البرد الشديد كان له من الأجر كِفلان).[10]
6. يعرفون يوم القيامة بسيماهم: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (ترد عليَّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس كما يذود الرجلُ إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله تعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيماء ليست لأحد غيركم، تردون عليّ غراً محجّلين من آثار الوضوء).[11]
7. زيادة العمر: في الحديث عنه(صلّى الله عليه وآله): (أكثِر من الطهور يُزد الله في عمرك).[12]
8. له أجر الصائم القائم: ورد عنه(صلّى الله عليه وآله): (الطاهر النائم كالصائم القائم)[13].
آداب الوضوء:
ينبغي على من يريد القرب من الله تعالى أن يراعي سنن الوضوء وآدابه، كما قال الإمام الصادق(عليه السلام): (واستعمله -أي: الماء- في تطهير الأعضاء التي أمرك الله بتطهيرها، وتعبدك بأدائها في فرائضه وسننه، فإن تحت كل واحدة منها -أي: الفرائض والسنن- فوائد كثيرة)[14]. وهذه السنن والآداب:
الأول: أن يتجه إلى القبلة مركز العبادة ونقطة التوحيد، عند الوضوء ويضع الإناء على يمينه ويقول إذا نظر إلى الماء: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْمَاءَ طَهُوراً وَ لَمْ يَجْعَلْهُ نَجِساً)[15].
الثاني: إذا أخذ غرفة من الماء ليتوضّأ فليتفطّن أنه كما يغسل بالماء الظاهر، الذي هو سبب الحياة لكل حيٍّ، ظاهرَ أعضائه، كذلك ليغسل باطنه بالعلم وهو الموجب لحياة القلوب والأرواح، فينوّر به قلبه وروحه، وأن يقول عند غسل اليدين: (بسم الله وبالله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين).
الثالث: إذا تمضمض فليقل: (اللهُمَّ لَقِّنِّي حُجَّتِي يَوْمَ أَلْقَاكَ وَأَطْلِقْ لِسَانِي بِذِكْرِكَ) ومعنى تلك المضمضة التي يُطهِّر بها فمه من فضول الطعام، أنه يُطهِّر فمه ولسانه من الذكر القبيح ومن فضول الكلام -فإن فضول الكلام يميت القلب-.
الرابع: أن يستنشق، ويطلب من الله شمّ الروائح العطرة المعنوية، ويقول بلسانه رمزا لذلك المعنى: (اللهم لا تحرمني ريح الجنّة واجعلني ممن يشم ريحها وروحها وطيّبها)[16].
الخامس: أن يغسل وجهه ويتوجه إلى أن ذلك يرمز إلى بياض الوجه وتحصيل ماء الوجه عند الله سبحانه، فيتذكر قصوره وتقصيره وخجلته وسواد وجهه ويستجير بالله من أن يلقى الله سبحانه بهذه الحالة، كما يحكيها الله سبحانه: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾[17]، وقال تعالى:
﴿وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَة﴾[18]، وأن يقول عند غسل وجهه: (اللهم بيّض وجهي يوم تسودّ الوجوه ولا تسوّد وجهي يوم تبيضّ الوجوه)[19].
السادس: أن يتذكّر عندما يغسل اليدين أنه غسل اليد عن الخلق وتفويض الأمر إلى الله والاستعداد لقرع بابه، كما قال الإمام علي(عليه السلام): (لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللَّه مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ)[20]، في وصفه لأهل الذكر وعباد الله.
وليتذكّر أيضاً موقف القيامة، وتطاير الكتب، وأحوال الناس في ذاك الوقت، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ* قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ* كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ* وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾[21].
كما ويرمز غسل اليد إلى غسلها عما نهى عنه الشارع، وبالخصوص المنهيّات التي تتحقّق باليد كالسرقة، والتعدّي بالضرب، والغصب وأمثالهما، ويعني صب الماء باليمنى على اليسرى أنه لا بد له من بسط اليد في البذل، والإعطاء، والإيثار في سبيل رضا الله تعالى، ولا يمسك يده، قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[22]، ويقول عند غسله اليمنى: (اللهم أعطني كتابي بيميني والخلد في الجنان بيساري وحاسبني حساباً يسيراً)[23]، ويقول عند غسله اليسرى: (اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي وأعوذ بك من مُقَطِّعات النيران)[24].
السابع: ليمسح رأسه من الخضوع لغير الله، ومن الكبرياء العارضة له إذ عدّ نفسه شيئاً، وليقل: (اللهم غشّني برحمتك وبركاتك وعفوك)[25].
الثامن: أن يمسح رجليه من المشي إلى دار الغربة وأرض المذلّة (الدنيا)، ويطهّرها أيضاً عن المشي بالكبر، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً﴾[26]، ويمشي بقدم العبودية والهوان ليصدق عبوديته لله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾[27]، وعليه التصميم على الثبات في ميدان الجهاد الأصغر والأكبر والمشي على الصراط المستقيم، ويقول بلسانه: (اللهم ثبّت قدمي على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام واجعل سعيي فيما يرضيك عني)[28].
عند الفراغ من الوضوء يقول: (اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك والجنة)[29] فهذا زكاة الوضوء، وتقول أيضاً: (الحمد لله رب العالمين)، بعد ذلك تقرأ سورة القدر ثلاث مرات وآية الكرسي.
إن هذه الأعمال والسنن الإلهية تساعد الإنسان على تحقيق صفاء النفس وطهارتها وسموّها وعلوّها حتى تقترب شيئاً فشيئاً من المعبود عز وجل، وبذلك تحصل على سعادة الدارين.
[1] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج1، ص287.
[2] سورة المائدة: آية6.
[3] كنز العمال، المتقي الهندي: ج9، ص293.
[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج77، ص238.
[5] كنز العمال، المتقي الهندي: ج9، ص284.
[6] كنز العمال، المتقي الهندي: ج9، ص284.
[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج24، ص337.
[8] الأمالي، الشيخ الصدوق: ص277.
[9] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج77، ص237.
[10] كنز العمال، المتقي الهندي: ج4، ج3562.
[11] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج28، ص28.
[12] الأمالي، الشيخ المفيد: ص60.
[13] كنز العمال، المتقي الهندي: ج9، ص277.
[14] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج1، ص354.
[15] الكافي، الشيخ الكليني: ج3، ص70.
[16] الكافي، الشيخ الكليني: ج3، ص70.
[17] سورة الزمر: آية60.
[18] سورة عبس: آية40-41.
[19] الكافي، الشيخ الكليني: ج3، ص70.
[20] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص343.
[21] سورة الحاقة:آية19-25.
[22] سورة آل عمران: آية92.
[23] الأمالي، الشيخ الصدوق: ص649.
[24] مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي: ص8.
[25] الكافي، الشيخ الكليني: ج3، ص71.
[26] سورة الإسراء: آية 37.
[27] سورة الفرقان: آية63.
[28] الكافي، الشيخ الكليني: ج3، ص71.
[29] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج77، ص317.