1- عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) يَقُولُ: (الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ لَا يَزِيدُه سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً)[1].
قوله (عليه السلام): (الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ) شبّه الجاهل العامل على غير بصيرة قلبيّة ومعرفة بما يعمله بالسائر على غير الطريق، فالإمام (عليه السلام) يحاول بهذا التشبيه أن ينفِّر النفس عن الجهل.
وأشار إلى وجه التشبيه بقوله: (لَا يَزِيدُه سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً) عن المطلوب، أو عن طريقه، إذ بعده عن المطلوب بقدر بعده عن طريق ذلك المطلوب.
وسرّ ذلك أنّ الطريق الموصل إلى الحقّ واحد متوسّط بين أضداد متعدّدة وطرق متكثّرة موصلة إلى الباطل، ومن عميت قوّة بصيرته وانطمست عين رؤيته يقع في أوّل قدم في طريق الضلال ثمّ لا يزيده سرعة سيره إلّا بعده عن المطلوب وهو الحق.
بخلاف العامل على معرفة وبصيرة في سلوكه وحركته من قربه من المطلوب، فإنّ العامل العالم يعلم بنور بصيرته وضوء معرفته طريق.
المطلوب فيبتدأ به ويترقّب أحوال نفسه فيما ينفعه ويضرّه فيطلب الأوّل ويترك الثاني، وهكذا يراعي حاله دائماً حتى ينتهي طريقه ويتمّ عمله على وجه الكمال ويحصل له القرب إلى المطلوب الحقيقي الذي هو لقاء الله سبحانه، والله الموفّق والمعين.
2- عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ حُسَيْنٍ الصَّيْقَلِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) يَقُولُ: (لَا يَقْبَلُ الله عَمَلاً إِلَّا بِمَعْرِفَةٍ ولَا مَعْرِفَةَ إِلَّا بِعَمَلٍ فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْه الْمَعْرِفَةُ عَلَى الْعَمَلِ ومَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلَا مَعْرِفَةَ لَه، أَلَا إِنَّ الإِيمَانَ بَعْضُه مِنْ بَعْضٍ)[2].
قوله (عليه السلام): (لَا يَقْبَلُ الله عَمَلاً إِلَّا بِمَعْرِفَةٍ)، أي بمعرفة ذلك العمل، لأنّ قبول العمل متوقّف على معرفته تعالى، ومعرفة صفاته ورسوله المبلّغ عنه، ومعرفة العمل ومأخذه الذي يجب الأخذ عنه، ومعرفة كيفيّته وأجزائه وشرائطه ومفاسده وموانع صحّته، فإذا حصلت تلك المعارف لأحد وعمل على وفقها كان عمله مقبولاً وإلاّ فلا.
ثم قال(عليه السلام): (ولَا مَعْرِفَةَ إِلَّا بِعَمَلٍ) يعني لا معرفة في الحقيقة أو على وجه الكمال إلّا إذا كانت مقرونة بعمل، لأنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء، كما دلّ عليه قول أمير المؤمنين(عليه السلام): (إنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله)[3]، وهذا كما يقال للبصير بالآيات والسامع لها إذا لم يقرّ بها: صمّ بكمٌ عميٌ، ولأنّ العلم سبب للعمل ومؤثّر فيه إذا كان ملكة راسخة وانتفاء الأثر دليل على انتفاء المؤثّر، وأيضاً العمل سبب لبقاء العلم واستمراره، فإذا انتفى العمل انتفى العلم وزال، كما دلّ عليه قول الإمام الصادق(عليه السلام): (العلم يهتف بالعمل فإذا أجابه وإلاّ ارتحل عنه)[4].
وإلا كان علمه حقيقة جهلاً وظلاما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (كفى بالعالم جهلا أن ينافي علمه عمله)[5]، وعنه (عليه السلام): (المعرفة نور القلب)[6].
أو قد يراد إن العلم والعمل المتقدم والمتأخر مختلفان وهو قول الإمام الباقر (عليه السلام): (من عمل بما يعلم علمه الله ما لم يعلم)[7]، وتوضيحه إن العلم نور يقذفه الله في قلب من يحب فمن عرف الله من نيته العمل بما يعلم به زاده علماً كما علم فيكون سبب علمه الثاني هو عمله الأول، وهذا العمل لا يكون مقبولاً ومؤثراً في حصول العلم الثاني إلا اذا كان ناجعا من علم بشرائط ذلك العمل وبالغرض منه وهو وجه الله تعالى ...ألخ شرائط الصحة.
ثم قال (عليه السلام): (فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْه الْمَعْرِفَةُ عَلَى الْعَمَلِ) إمّا نتيجة للسابق ومتفرّع عليه، أو تفصيل له لما فيه من الإجمال في الجملة، والمقصود أنّ المعرفة إذا رسخت في النفس واستقرّت فيها دلّت العارف على العمل وتوصله إليه وتبعثه عليه والعمل من آثارها وتوابعها المترتّبة عليها لذلك أصبح أفضل المؤمنين أفضلهم معرفة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة)[8].
توضيح ذلك: أنّ المعارف والعلوم الراسخة أنوار للنفس الإنسانية، وبها ينكشف عند النفس جلال الله وجماله وعظمته وقدرته فتصير تلك المعارف من أجل ذلك دليلاً لها في انتقالها من مقام الفرقة الذي لها في العالم الجسماني إلى مقام الشوق إلى الوصول بقرب الحقّ وحضرة القدس ومن مقام الشوق إلى مقام العزم في السير إليه، ومن مقام العزم إلى مقام تهيئة الآلات والأعضاء والجوارح وتحريكها نحو الأعمال الموجبة للقرب واشتغالها بها، فالمعرفة إذن دليل على العمل، ومنه يظهر سرّ قول الكاظم(عليه السلام): (كثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود)[9]، لأنّ من أراد الوصول إلى مقام خفيّ الآثار بلا دليل كان خطؤه أكثر من الصواب.
(ومَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلَا مَعْرِفَةَ لَه) لأنّ العارف أي الذي حصل له شيء من المعرفة ويظنّ أنّه عارف إذا لم يعمل كان ذلك لعدم رسوخ تلك المعرفة وعدم استقرارها في نفسه لما عرفت أنّ المعرفة الراسخة دالّة وباعثة على العمل، فإذا انضاف إليه اتّباعه للنفس الأمّارة وهواها واقتفاؤه للقوّة الشهوية والغضبية وسائر القوى الحيوانية ومقتضاها زالت عنه تلك المعرفة الناقصة الغير المستقرّة بالكلّية لظلمة نفسه وكدورة طبعه وسواد ذهنه.
ويحتمل أيضاً أنّ العمل مصقلة للذهن وسبب لصفائه وتنوره فهو معدّ لحصول معرفة أخرى فيه أكمل وأفضل من المعرفة الباعثة على العمل، فمن لم يعمل لم يكن له تلك المعرفة الكاملة وهذه العبارة مع قوله: (لَا يَقْبَلُ الله عَمَلاً إِلَّا بِمَعْرِفَةٍ) تفيد أنّ العلم والعمل متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، كما يشعر به أيضاً قول الصادق (عليه السلام): (العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه)[10].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (جمال العالم عمله بعلمه)[11].
وعن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في كلام له: (العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه)[12].
(أَلَا إِنَّ الإِيمَانَ بَعْضُه مِنْ بَعْضٍ) لأنّ الإيمان مركّب من المعرفة والعمل، أعني التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، كما دلّ عليه بعض الروايات، وهو الشائع في ألسنة الشرع.
وقد تقرّر أنّ المعرفة باعثة على العمل، والعمل معدّ لحصول معرفة أخرى أكمل وأفضل، فالعمل من المعرفة وهكذا يتدرّجان إلى أن يبلغ أقصى مراتب الإيمان. وأيضاً المعرفة سبب من أسباب تحقّق العمل وحدوثه، والعمل سبب من أسباب بقاء المعرفة واستقرارها، فقد ظهر على التقديرين أنّ الإيمان بعضه من بعض، ويحتمل أن يكون معناه أنّ الإيمان بعضه الذي هو العمل من بعضه الذي هو المعرفة المقتضية له، ثمّ تتفاوت الأعمال بحسب تفاوت المعرفة، فأدنى مراتبها يدلّ على أدنى مراتب العمل، وأعلاها على أعلى مراتبه، والمتوسّطات متوسّطات في الدلالة والكمية والكيفيّة، وبحسب هذا التفاوت يتفاوت الإيمان كمالاً ونقصاناً.
ويحتمل أن يراد بالإيمان هنا نفس المعرفة والتصديق، ويجعل العمل خارجاً عنه معتبراً في كماله وزيادته، والمقصود حينئذ أنّ الإيمان بعض أفراده من بعض لا بعض أجزائه من بعض، كما في الأوّل.
بيان ذلك: أنّ مراتب المعرفة متفاوتة بعضها فوق بعض، وكلّ مرتبة سبب للفيوضات المعرفية الربانية; حتى يستعدّ بذلك لفيوضات معرفية أخرى أقوى وأكمل من الأولى، وهكذا تتدرّج المعارف إلى أن تبلغ لغاية الكمال وهي الإيمان الحقيقي، فقد ظهر أنّ للإيمان أفراداً متكثّرةً بعضاً ينشأ من بعض.
3- عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ عَمَّنْ رَوَاه عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): (مَنْ عَمِلَ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ)[13].
وقوله (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مَنْ عَمِلَ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ) فيه ترغيب في تحصيل العلم وتنفير عن الجهل باعتبار أنّ أكثر أعمال الجاهل فاسدة موجبة لفساد حاله وخسران مآله وبعده عن ساحة الحقّ ورحمته، وذلك لأنّ الأعمال إمّا قلبيّة أو بدنية، وكلّ واحد منهما صحيحة موجبة للقرب من الله سبحانه والتشرّف بشرف كرامته ورحمته أو سقيمة مؤدّية إلى البعد عنه والحركة إلى مقام سخطه وغضبه والتمييز بين الصحيح والسقيم منها لا يتصوّر بدون العلم بحقائقها وخواصّها ومنافعها ومضارّها وكيفيّة العمل بها، فمن اشتغل بعمل من غير علم به كان ذلك العمل فاسداً في ذاته.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مثل العابد الذي لا يتفقه كمثل الذي يبني بالليل ويهدم بالنهار)[14].
وعن الإمام علي(عليه السلام): (العلم بلا عمل وبال، "و" العمل بلا علم ضلال)[15].
وهناك روايات كثيرة تبين أهمية طلب العلم والمعرفة فعن أبي إسحاق السبيعي عمن حدثه قال: سمعت أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: (أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم، وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه)[16].
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابا فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملا)[17].
وعن يونس بن عبد الرحمن، عن بعض أصحابه قال: سئل أبو الحسن(عليه السلام): (هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال: لا)[18].
وأخيرا نختم كلامنا بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فضل العالم حيث قال: (فضل العالم على غيره كفضل النبي على أمته)[19].
مجلة بيوت المتقين العدد (12)
[1] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص٤٣.
[2] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص٤4.
[3] تحف العقول: ص150.
[4] الكافي: ج1، ص44.
[5] غرر الحكم: 10187.
[6] غرر الحكم: 2061.
[7] بحار الأنوار: ج75، ص189.
[8] بحار الأنوار: ج3، ص14.
[9] الكافي: ج1، ص17.
[10] الكافي: ج1، ص44.
[11] غرر الحكم: 4296.
[12] الكافي: ج1، ص44.
[13] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص٤٤.
[14] كنز العمال: 28930.
[15] غرر الحكم: 3198.
[16] الكافي: ج1، ص30.
[17] الكافي: ج1، ص31.
[18] الكافي: ج1، ص30.
[19] كنز العمال: ج1، ص156.