تزكية النفس

قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)

الفلاح هو الظفر بالمطلوب وإدراك البغية، والخيبة خلافه، والزكاة نمو النبات نموا صالحا ذا بركة والتزكية إنماؤه كذلك، وورد عن علي (عليه السلام) قوله: (المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق)[1]، " فالزكاة " في الأصل بمعنى النمو والبركة، ثم استعملت الكلمة بمعنى التطهير، وقد يعود ذلك إلى أن التطهير من الآثام يؤدي إلى النمو والبركة، والآية الكريمة تحتمل المعنيين.

والمسألة الأساسية في حياة الإنسان هي هذه " التزكية "، فإن حصلت سعد الإنسان وإلا شقى وكان من البائسين، والفلاح لا يكون إلا لمن ربى نفسه ونماها، وطهرها من التلوث بالخصال الشيطانية وبالذنوب والكفر والعصيان.

ثم يعرج السياق القرآني على المجموعة المخالفة فيقول: (وقد خاب من دساها).

" خاب ": من الخيبة، وهي فوت الطلب، كما يقول الراغب في المفردات والحرمان والخسران.

" دساها " من مادة " دس " وهي في الأصل بمعنى إدخال الشيء قسرا، وجاء في الآية (59) من سورة النحل قوله سبحانه: (أم يدسه في التراب)، إشارة إلى عادة الجاهليين في وأد البنات، أي إدخالهن في التراب كرها وقسرا ومنه " الدسيسة " التي تقال للأعمال الخفية والضارة.

وما هي المناسبة بين معنى الدس، وقوله سبحانه: (وقد خاب من دساها) ؟

قيل: إن هذا التعبير كناية عن الفسق والذنوب، فأهل التقوى والصلاح يظهرون أنفسهم، بينما المذنبون يخفونها، ويذكر أن العرب الكرماء جرت عادتهم على نصب خيامهم على المرتفعات، وإشعال النيران قربها في الليل، لتكون بادية للمارة ليل نهار، بينما أهل البخل واللؤم يقبعون في المنخفضات كي لا يأتيهم أحد.

وقيل: إن المقصود اندساس المذنبين بين صفوف الصالحين.

وقيل: إن المذنب يدس نفسه أو هويته الإنسانية في المعاصي والذنوب.

وقيل: إنه يخفي المعاصي والذنوب في نفسه.

والتعبير ـ على كل حال ـ كناية عن التلوث بالذنوب والمعاصي والخصائل الشيطانية، وبذلك يقع في المنطقة المقابلة للتزكية، والآية تحتمل في مفهومها الواسع كل هذه المعاني.

وبهذا المعيار يتم تمييز الفائزين عن الفاشلين في ساحة الحياة. " تزكية النفس وتنميتها بروح التقوى وطاعة الله " أو " تلوثها بأنواع المعاصي والذنوب".

الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا في تفسير الآية الكريمة: (قد أفلح من أطاع وخاب من عصى)[2].

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال حين تلا الآية: " اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وزكها أنت خير من زكاها "[3].

 وهذا الحديث يدل على أن اجتياز عقبات المسيرة الحياتية لا يتيسر إلا بتوفيق الله تعالى، أي لا يتيسر إلا بعزم العبد وتأييد الباري، ولذلك ورد في حديث آخر عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في تفسير الآيتين قوله: (أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس خيبها الله من كل خير)[4].

 وينبغي الالتفات أن التعبير بالتزكية والتدسي عن إصلاح النفس وإفسادها مبتن على ما يدل عليه قوله: (فألهمها فجورها وتقواها)، فمقتضى إفاضة النعم المذكورة قي الآيات السابقة وإنارة الروح بإلهام الفجور والتقوى هو المشي على درب الطاعة، وتزكية النفس دون الولوج في طريق الفجور وإخفاء الدسائس الشيطانية.

 على أن من كمال النفس الإنسانية أنها ملهمة مميزة - بحسب فطرتها - للفجور من التقوى أي أن الدين وهو الإسلام لله فيما يريده فطري للنفس فتحلية النفس بالتقوى تزكية وانماء صالح وتزويد لها بما يمدها في بقائها قال تعالى: (وتزودوا فان خير الزاد التقوى واتقون يا اولي الألباب)[5] وأمرها في الفجور على خلاف التقوى[6].

أهمية تهذيب النفس:

جاء التركيز في الآيات الشريفة على أن النجاح والفلاح في تزكية النفس، وأن الخيبة والخسران في ترك التزكية.

وهذه في الواقع أهم مسألة في حياة الإنسان، والقرآن الكريم إذ يطرح هذه الحقيقة إنما يؤكد على أن فلاح الإنسان لا يتوقف على الأوهام ولا على جمع المال والمتاع ونيل المنصب والمقام، ولا على أعمال أشخاص آخرين

(كما هو معروف في المسيحية بشأن ارتباط فلاح الإنسان بتضحية السيد المسيح) ... بل الفلاح يرتبط بتزكية النفس وتطهيرها وسموها في ظل الإيمان والعمل الصالح.

وشقاء الإنسان ليس أيضاً وليد قضاء وقدر وبالإجبار، ولا نتيجة مصير مرسوم، ولا بسبب فعل هذا وذاك، بل هو فقط بسبب التلوث بالذنوب والانحراف عن مسير التقوى.

وفي الأثر أن زوجة العزيز (زليخا) قالت ليوسف لما أصبح حاكم مصر: " إن الحرص والشهوة تصير الملوك عبيدا، وأن الصبر والتقوى يصير العبيد ملوكا، فقال يوسف: قال الله تعالى: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)[7].

وعنها أيضاً قالت لما رأت موكب يوسف مارا من أمامها: " الحمد لله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكا "[8] نعم، عبادة النفس تؤدي إلى وقوع الإنسان في أغلال الرقية بينما تزكية النفس توفر أسباب التحكم في الكون.

ما أكثر الذين وصلوا بعبوديتهم لله تعالى درجة جعلتهم أصحاب ولاية تكوينية، ومكنتهم بإذن الله أن يؤثّروا في حوادث هذا العالم وأن تصدر منهم الكرامات وخوارق العادات!!

إلهي! أعنا على أنفسنا وعلى كبح جماح أهوائنا. إلهي! لقد ألهمتنا " الفجور " و" التقوى " فوفقنا للاستفادة من هذا الإلهام.

إلهي! دسائس الشيطان خفية غامضة في نفس الإنسان، فوفقنا لمعرفتها. آمين يا رب العالمين[9].

مجلة بيوت المتقين العدد (27)

 


[1] نهج البلاغة: ج4، ص36.

[2] مجمع البيان، ج 10، ص 498.

[3] مجمع البيان، ج 10، ص 498.

[4] الدر المنثور، ج6، ص 357.

[5] البقرة: 197.

[6] الأمثل: ج20، ص239.

[7] المحجة البيضاء، ج 5، ص 116.

[8] المحجة البيضاء، ج 5، ص 117.

[9] الأمثل: ج20، ص248.