(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)[1].
سبب النزول:
جاء في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أن المسلمين لم يرضوا بالإنفاق على غير المسلمين، فنزلت هذه الآية تجيز لهم ذلك عند الضرورة.
وهناك سبب نزول آخر لهذه الآية قريب من سبب النزول السابق، فقد جاء أن امرأة مسلمة تدعى (أسماء) كانت في رحلة عمرة القضاء مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فجاءتها أمها وجدتها تطلبان بعض العون منها، ولكن لما كانتا من المشركين وعبدة الأصنام، فقد امتنعت أسماء عن مد يد المساعدة إليهما، وقالت: لابد أن أستجيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك لأنكما لستما على ديني. وأقبلت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) تستجيزه، فنزلت الآية المذكورة.
التفسير:
تحدثت الآيات السابقة عن مسألة الإنفاق في سبيل الله بشكل عام، ولكن في هذه الآية الحديث عن جواز الإنفاق على غير المسلمين، بمعنى أنه لا ينبغي ترك الإنفاق على المساكين والمحتاجين من غير المسلمين حتى تشتد بهم الأزمة والحاجة فيعتنقوا الإسلام بسبب ذلك.
تقول الآية: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ). فلا يصح أن تجبرهم على الإيمان، وترك الإنفاق عليهم نوع من الإجبار على دخولهم إلى الإسلام، وهذا الأسلوب مرفوض، ورغم أن المخاطب في هذه الآية الشريفة هو النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلا أنه في الواقع يستوعب كل المسلمين.
ثم تضيف الآية: (وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ومن تكون له اللياقة للهداية.
فبعد هذا التذكر تستمر الآية في بحث فوائد الإنفاق في سبيل الله فتقول: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله).
هذا في صورة (مَا) إذا قلنا أن جملة (وَمَا تُنْفِقُوا) قد أخذت هنا بمعنى النهي، فيكون معناها أن إنفاقكم لا ينفعكم شيئا إلا إذا كان في سبيل الله تعالى.
ويحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة خبرية، أي أنكم أيها المسلمون لا تنفقون شيئا إلا في سبيل الله تعالى وكسب رضاه.
وفي آخر عبارة من هذه الآية الكريمة نلاحظ تأكيدا أكثر على مقدار الإنفاق وكيفيته حيث تقول الآية: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).
يعني أنكم لا ينبغي أن تتصوروا أن إنفاقكم سيعود عليكم بربح قليل، بل أن جميع ما أنفقتم وتنفقون سيعود إليكم كاملا، وذلك في اليوم الذي تحتاجون إليه بشدة، فعلى هذا لا تترددوا في الإنفاق أبدا.
ويستفاد من ظاهر هذه الجملة أن نفس المال المنفق سيعود على صاحبه (لأثوابه) فيمكن أن تكون الآية دليلا على تجسم الأعمال الذي سيأتي بحثه مفصلا في الآيات اللاحقة.
نعم الله وآلاءه:
الآية أعلاه تبين لنا أن نعم الله وآلاءه في هذا العالم كما أنها تشمل الجميع بغض النظر عن العقيدة والدين، كذلك ينبغي أن يشمل إنفاق المؤمنين المستحب رفع حاجات الناس غير المسلمين أيضا إذا اقتضت الضرورة.
ومن الواضح أن الإنفاق على غير المسلمين يجب أن يكون ذا طابع إنساني ففي هذه الصورة يكون جائزا، لا ما إذا كان موجبا لتقوية الكفر ودعم خطط الأعداء المشؤومة.
ما معنى وجه الله؟
(وجه) بالإضافة إلى معناها المعروف قد تستعمل بمعنى ذات، وعندئذ ش وجه الله تعني ذات الله التي يجب أن يتوجه إليها المنفقون في إنفاقهم، وعليه فإن ورود كلمة (وجه) في هذه الآية وفي غيرها إنما يقصد به التوكيد، فمن الواضح أن قولنا (لوجه الله) أو (لذات الله) أكثر تأكيدا من قولنا (لله). فيكون المعنى أن الإنفاق لله حتما لا لغير الله.
ثم إن الوجه أشرف جزء من أجزاء الجسم الظاهرة، ففيه أهم أعضاء الإنسان كالبصر والسمع والنطق. ولهذا حيثما استعملت كلمة (الوجه) كان القصد إيصال معاني الشرف والأهمية، واستعمالها هنا استعمال كناية يفهم منه الاحترام والأهمية، وإلا فإن الله منزه عن الصورة الجسدية[2].
للهداية أنواع مختلفة:
من الواضح أن المقصود من عدم وجوب هداية الناس على الرسول(صلى الله عليه وآله) لا يعني أنه غير مكلف بإرشاد الناس وهدايتهم؛ لأن الإرشاد والدعوة من أهم جوانب مسؤوليات النبي(صلى الله عليه وآله)، وإنما المقصود أنه غير مكلف بممارسة الضغط وعوامل الإكراه لحمل الناس على اعتناق الإسلام.
وهل أن المقصود من هذه الهداية هو الهداية التكوينية أو التشريعية؟ لأن الهداية لها عدة أنواع:
أ- الهداية التكوينية: وتعني أن الله تعالى خلق مجموعة من عوامل التقدم والتكامل في مختلف كائنات هذا العالم، يشمل ذلك الإنسان وجميع الكائنات الحية، بل حتى الجمادات، وهذه العوامل تدفع الموجودات نحو تكاملها.
إن نمو الجنين في رحم أمه ورشده، ونمو البذرة في باطن الأرض ورشدها، وحركة السيارات والمنظومات الشمسية في مداراتها، وأمثال ذلك نماذج مختلفة من الهداية التكوينية. وهذا النوع من الهداية خاص بالله تعالى، ووسائلها عوامل وأسباب طبيعية وما وراء الطبيعية. يقول القرآن المجيد: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[3].
ب- الهداية التشريعية: وتعني هداية الناس عن طريق التعليم والتربية، والقوانين، والحكومات العادلة، والموعظة والنصيحة. وهذه الهداية يقوم بها الأنبياء والأئمة والصالحون والمربون المخلصون. وقد أشار القرآن إلى هذا بقوله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[4].
ج- الهداية التوفيقية: وهي الهداية إلى تهيئة الوسائل ووضعها في متناول الأفراد لكي يستفيدوا منها حسبما يشاؤون في مضان التقدم، كبناء المدارس والمساجد ومعاهد التربية، وإعداد الكتب ووضع الخطط وتدريب المربين والمعلمين المؤهلين، وهذا النوع من الهداية يقع بين الهدايتين التكوينية والتشريعية. يقول القرآن: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[5].
د- الهداية نحو النعمة والمثوبة: وهذه تعني هداية الأفراد اللائقين للانتفاع بنتائج أعمالهم الصالحة في العالم الآخر، وهي هداية تختص بالمؤمنين الصالحين. يقول القرآن: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ)[6].
هذه الآية جاءت بعد ذكر تضحية الشهداء في سبيل الله، واضح أن هذا النوع من الهداية ترتبط بتمتع هؤلاء بثمار أعمالهم في الآخرة.
الواقع أن هذه الأنواع الأربعة من الهداية تشكل مراحل مختلفة متوالية لحقيقة واحدة، ففي البداية تكون الهداية التكوينية التي يهدي بها الله مخلوقاته، ومنها الإنسان الذي أودع فيه العقل والفكر والقوى الأخرى.
يلي تلك الهداية هداية الأنبياء والرسل الذين يهدون الناس إلى طريق الحق. والهداية هنا بمعنى الإرشاد والتبليغ. ثم تأتي مرحلة العمل فيشمل الله مخلوقاته بتوفيقه فتتمهد لهم سبل وطرائق تسير عليها نحو التكامل. وهذه هي هداية التوفيق. وفي العالم الآخر ينالون جزاء أعمالهم الصالحات.
هداية الإرشاد والدعوة التي تشكل واحدا من أنواع الهداية الأربعة هي من واجبات الأنبياء والأئمة، وقسم منها مما يتناول تمهيد الطرق، يدخل معظمه ضمن واجبات الحكومات الإلهية للأنبياء والأئمة، والباقي يختص بالله تعالى.
وعليه حيثما نجد في القرآن سلب الهداية عن أنبياء، فذلك لا يخص النوعين الأولين.
(وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) وهي هداية لا تأتي اعتباطاً بدون حكمة ولا حساب، أي أنه لا يمكن أن يهدى بهذا ويحرم ذاك بغير سبب، فعلى الإنسان أن يكون جدير بالهداية لكي ينالها ويستفيد منها.
نستخلص من هذه الآية حقيقة أخرى، وهي أنه يخاطب نبيه قائلا: إذا ظهر بين المسلمين ـ بعد كل ذلك التحذير من الإنفاق المصحوب بالرياء والمن والأذى - أفراد ما يزالون يلوثون إنفاقهم بهذه الأمور، فلا يسؤك ذلك، إن واجبك هو بيان الأحكام وتهيئة المناخ الاجتماعي السليم، وليس من واجبك أبدا أن تجبرهم على تجنب هذه الأمور. وهذا التفسير لا يتنافى مع التفسير السابق، فكلاهما محتملان.
أثر الإنفاق في حياة المنفق:
نلاحظ في قوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ) أن فوائد الإنفاق تعود على المنفقين أنفسهم، وبهذا تدفعهم نحو هذا العمل الإنساني، وطبيعي أن الإنسان يزداد حماسا لممارسة علمه حين يعلم أن منافع هذا العمل تعود إليه.
قد يبدو للوهلة الأولى أن المنافع التي تعود على المنفق من إنفاقه هي ما يناله من ثواب في الآخرة، هذا بالطبع صحيح، ولكن لا ينبغي أن يتصور أن نتائج الإنفاق أخروية فحسب، بل إن له منافع في هذه الدنيا أيضا مادية ومعنوية.
ففائدته المعنوية هي أن روح البذل والإنسانية والتضحية والأخوّة تتربى في المنفق، وهذه في الواقع وسيلة مؤثره في تكامل شخصية الإنسان وتربيته.
أما فائدته المادية، فإن وجود أناس معدمين فقراء في مجتمع ما يكون سببا في أزمات اجتماعية خطرة قد تبتلع مبدأ الملكية نفسه في ثورتها، فلا تبقي ولا تذر.
الإنفاق يقلل من الفواصل الطبقية، ويزيل هذا الخطر الذي يهدد الأفراد الأثرياء في المجتمع، فالإنفاق يطفئ لهيب غضب الطبقات المحرومة، ويقضي على روح الانتقام في نفوسهم.
من هنا فالإنفاق لصالح المنفقين من حيث الأهمية الاجتماعية والسلامة الاقتصادية والجوانب المختلفة المادية والمعنوية[7].
مجلة بيوت المتقين العدد ( 88 ـ 89)