القول السديد

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)[1].

 الكلمة هي صلة الوصل بين الإنسان والعالم من حوله، وهي من الصفات التي تميَّز بها الإنسان عن سائر المخلوقات.

وقد أولى القرآن الكريم عناية خاصة بها، فحضّ المؤمنين على التحلّي بخير الكلام وأحسن القول.

فوصف سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء[2]. وأمر المؤمنين من عباده أن يقولوا للناس حسنا[3]، وأن يقولوا لهم قولا معروفا[4]. وأخبر تعالى أنه إليه يصعد الكلم الطيب[5].

وفي هذا الصدد يأتي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)[6]. فالآية الكريمة تتصدى لعلاج مرض اجتماعي خطير، وتأمر المؤمنين بالقول السديد.

 فما هو القول السديد، وماذا يترتب عليه من نتائج؟

القول السديد من مادة (سدّ) أي المحكم المنيع الذي لا يعتريه الخلل، والموافق للحق والواقع، ويعني القول الذي يقف كالسد المنيع أمام أمواج الفساد والباطل.

وإذا ما فسره بعض المفسرين بالصواب، والبعض الآخر بكونه الكلام الخالص من الكذب واللغو، أو هو الكلام الذي تساوى فيه الظاهر والباطن، أو الصلاح والرشاد، وأمثال ذلك، فإنها في الواقع تفاسير ترجع إلى المعنى الجامع أعلاه.

يقول علماء الأخلاق: إن اللسان أكثر أعضاء البدن بركة، وأكثر الوسائل تأثيرا في الطاعة والهداية والصلاح، وهو في الوقت نفسه يعد أخطر أعضاء البدن وأكثرها معصية وذنبا، حتى أن ما يقرب من الثلاثين كبيرة تصدر من هذا العضو الصغير منها: الكذب، والغيبة، والنميمة، وغيرها[7].

 ومن استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعية، والأزمات المعكِّرة لصفو المجتمع، علم أن منشأها في الأغلب بوادر اللسان، وتبادل المهاترات الباعثة على توتر العلائق الاجتماعية، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع.

من أجل ذلك كان صون اللسان، وتعويده على الكلام الطيب والحديث المهذّب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدب الكلام وتقتضيها مصلحة الفرد والمجتمع.

فطيب الحديث، وحسن المقال، من سمات النبل والكمال، ودواعي التقدير والاعزاز، وعوامل الظفر والنجاح.

وقد دعت الشريعة الإسلامية إلى التحلي بأدب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً إشاعة للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع.

 وقد تقدمت بعض الآيات، وأما الروايات الشريفة فهي كثيرة منها:

جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أوصني. قال: (احفظ لسانك. قال: يا رسول الله أوصني. قال: احفظ لسانك. قال: يا رسول الله أوصني. قال: احفظ لسانك، ويحك وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم!!)[8].

وفي حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)[9].

وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): (القول الحسن يُثري المال، ويُنمّي الرزق، ويُنسئ في الأجل، ويُحبّب إلى الأهل، ويُدخل الجنة)[10].

ومن الرائع جداً ما ورد في حديث آخر عن الإمام السجاد (عليه السلام): (إن لسان ابن آدم يشرف كل يوم على جوارحه فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: الله الله فينا، ويناشدونه ويقولون: إنما نثاب بك ونعاقب بك)[11].

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) لعبّاد بن كثير البصري الصوفي: (ويحك يا عبّاد، غرّك أن عفَّ بطنك وفرجك، إنّ الله تعالى يقول في كتابه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ))[12] إنه لا يتقبل الله منك شيئاً حتى تقول قولاً عدلاً)[13].

ونستجلي من تلك النصوص ضرورة التمسك بأدب الحديث، وصون اللسان عن البذاء، وتعويده على الكلم الطيب، والقول الحسن، فللكلام العفيف النبيل حلاوته ووقعه في نفوس الأصدقاء والأعداء معاً، ففي الأصدقاء ينمّي الحب، ويستديم الودّ، ويمنع نزغ الشيطان في إفساد علائق الصداقة والمودة، وفي الأعداء يلطّف مشاعر العداء، ويخفف من إساءتهم وكيدهم.

وليس شيء أدل على غباء الإنسان، وحماقته، من الثرثرة، وفضول القول، وبذاءة اللسان، فقد مرّ أمير المؤمنين برجل يتكلم بفضول الكلام، فوقف عليه وقال: (يا هذا إنك تملي على حافظيك كتاباً الى ربك، فتكلم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك)[14].

وقال (عليه السلام): ((من كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، من قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار)[15].

وعن سليمان بن مهران قال: (دخلت على الصادق (عليه السلام) وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول)[16].

وتوقّياً من بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة، فقد حثت النصوص على الصمت، وعفة اللسان، ليأمن المرء كبوته وعثراته المدمّرة:

قال الصادق (عليه السلام): (الصمت كنز وافر، وزين الحليم، وستر الجاهل)[17].

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان أبو ذر يقول: (يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير، ومفتاح شر، فاختم على لسانك، كما تختم على ذهبك ووَرَقِك)[18].

عاقبة القول السديد

 تُبيّن الآية التالية لهذه الآية نتيجة القول السديد، فتقول: يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم)[19]، إن التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه، ومنبع قول الحق، لقد رتبت الآية الكريمة على (القول السديد) جملة من النتائج، عبّرت عنها الآية التالية لها، وهي قوله تعالى: يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم[20]، فالقول الحق أحد العوامل المؤثرة في إصلاح الأعمال، وإصلاح الأعمال سبب مغفرة الذنوب، وذلك لان الحسنات يذهبن السيئات[21]، فالله سبحانه يرعى المسدَّدَين، ويصلح لهم أعمالهم؛ جزاء التصويب والتسديد، والله يغفر لذوي الكلمة الطيبة والعمل الصالح، ويكفّر عن السيئة التي لا ينجو منها الآدميون الخطاؤون، ولا ينقذهم منها إلا المغفرة والتكفير.
وعلى ضوء المقدمات والنتائج التي قررتها هذه الآية الكريمة، نستطيع أن ندرك أهمية الكلمة الحسنة، والقول السديد في حياة الأفراد والأمم معاً، فكم من كلمة صوبت مسيرة إنسان كان يسلك طريق الضلال! وكم من كلمة أودت بحياة إنسان كان يعيش في خير وأمان! وكم من كلمة صنعت سلاماً وأمناً! وكم من كلمة صنعت حرباً ودماراً! وواقع الأفراد، وتاريخ الأمم خير شاهد على ذلك.

مجلة بيوت المتقين العدد (40)

 


[1] الأحزاب: 70.

[2] إبراهيم: 24.

[3] البقرة: 83.

[4] النساء: 5.

[5] سورة فاطر: 10.

[6] الأحزاب: 70.

[7] تفسير الأمثل: ج13، ص364.

[8] الوافي: ج3، ص85.

[9] بحار الأنوار: ج71، ص78.

[10] بحار الأنوار: ج15، ص192.

[11] بحار الأنوار: ج17، ص278.

[12] الأحزاب: 70 – 71.

[13] الوافي: ج3، ص85.

[14] الوافي: ج3، ص85.

[15] بحار الأنوار: ج15، ص187.

[16] بحار الأنوار: ج 15، ص192.

[17] الوافي: ج3، ص85.

[18] الوافي: ج3، ص85.

[19] الأحزاب: 71.

[20] الأحزاب: 71.

[21] سورة هود، الآية 114.