(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَالله غَنِيٌّ حَلِيمٌ)[1]
التفسير:
هذه الآية تكمل ما بحثته الآية السابقة وهي قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[2]، في مجال ترك المنة والأذى عند الإنفاق والتصدق فتقول: إن الكلمة الطيبة للسائلين والمحتاجين والصفح عن أذاهم أفضل من الصدقة التي يتبعها الأذى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى).
ويجب أن يكون معلوماً، أن ما تنفقوه في سبيل الله فهو في الواقع ذخيرة لكم لإنقاذكم ونجاتكم؛ لأن الله تعالى غير محتاج إليكم وإلى أموالكم وحليم في مقابل جهالاتكم: (وَالله غَنِيٌّ حَلِيمٌ).
التفسير:
1- تبين هذه الآية منطق الإسلام في قيمة الأشخاص الاجتماعية وكرامتهم، وترى أن أعمال الذين يسعون في حفظ رؤوس الأموال الإنسانية، ويعاملون المحتاجين باللطف ويقدمون لهم التوجيه اللازم، ولا يفشون أسرارهم، أفضل وأرفع من إنفاق أولئك الأنانيين ذوي النظرة الضيقة الذين إذا قدّموا عوناً صغيراً يتبعونه تجريح الناس المحترمين وتحطيم شخصياتهم. في الحقيقة إن أمثال هؤلاء الأشخاص ضررهم أكثر من نفعهم، فهم إذا أعطوا ثروة عرضوا ثروات للإبادة والضياع.
يتضح مما قلناه إن لتعبير: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) مفهوماً واسعاً يشمل كل أنواع القول الطيب والتسلية والتعزية والإرشاد.
وذهب بعضهم إلى أن المراد هو الأمر بالمعروف، ولكن هذا المعنى لا يتناسب مع الآية ظاهراً.
(مَغْفِرَةٌ) بمعنى العفو بإزاء خشونة المحتاجين، أولئك الذين طفح كيل صبرهم بسبب تراكم الابتلاءات عليهم، فتزل ألسنتهم أحياناً بالخشن من القول مما لا يودونه قلبياً.
هؤلاء بعنفهم هذا إنما يريدون أن ينتقموا من المجتمع الذي ظلمهم وغمط حقوقهم، فأقل ما يمكن للأشخاص الأثرياء في مقابل حرمان هؤلاء المحرومين هو أن يتحملوا منهم اندفاعاتهم اللفظية التي هي شرر النار التي تستعر في قلوبهم فتنطلق على ألسنتهم.
لا شك أن تحمل عنفهم وخشونتهم والعفو عنها يخفف عنهم ضغط عقدهم النفسية، وبهذا تتضح أكثر أهمية هذه الأوامر الإلهية.
يرى بعض أن (المغفرة) يقصد بها هنا المعنى اللغوي، وهو الستر والإخفاء.
أي ستر أسرار المحتاجين الذين لهم كرامتهم مثل غيرهم. غير أن هذا التفسير لا يتعارض مع ما قلناه، لأننا إذا فسرنا المغفرة بمعناها الأوسع فهي تشمل العفو كما تشمل الستر والإخفاء أيضا.
جاء في تفسير (مجمع البيان) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردوا عليه بوقار ولين، إما ببذل يسير أو رد جميل، فإنه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرونكم كيف صنيعكم فيما خولكم الله تعالى»[3].
في هذا الحديث يبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) جانباً من آداب الإنفاق.
2- إن العبارات القصيرة التي تأتي في ختام الآيات عادة وتورد بعض صفات الله تعالى ترتبط حتماً بمضمون الآية نفسها.
وعلى هذا فمن الممكن أن يكون المقصود من: (وَالله غَنِيٌّ حَلِيمٌ) هو: أن الإنسان ظالم بالطبع، ولذلك فإنه إذا نال منصباً وحصل ثروة حسب نفسه غنياً ولم يعد بحاجة إلى الآخرين، وقد تحدو به هذه الحالة إلى استعمال الخشونة والتهجم ضد المحرومين والمحتاجين، لذلك يقول القرآن إن الغني بذاته هو الله، فالله هو وحده الغني الذي لا يحتاج شيئاً، أما إحساس البشر بأنه غني فسراب خادع لا ينبغي أن يؤدي إلى الطغيان والتعالي على الفقراء، ثم إن الله حليم بالنسبة للذين لا يشكرون، فعلى المؤمنين أن يكونوا كذلك أيضاً.
وقد تكون الآية إشارة إلى أن الله غني عن إنفاقكم، وأن ما تنفقونه إنما هو لخيركم أنفسكم، فلا تمنوا على أحد، ثم إن الله حليم باتجاه خشونتكم ولا يتعجل معاقبتكم لعلكم تستيقظون وتصلحون أنفسكم.
مجلة بيوت المتقين العدد (81)