لقد جاءت قصة النبي موسى (عليه السلام) في القرآن الكريم، أكثر من سائر الأنبياء، وأشير إلى قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل أكثر من مائة مرة، في أكثر من ثلاثين سورة...
ولو أننا درسنا آيات كل سورة على حدة، ثم وضعناها جانباً إلى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصور البعض، بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة ما يناسبها من البحث للاستشهاد به. وحيث أن مصر كانت أوسع، وكان لشعبها حضارة أكثر تقدماً من قوم نوح وهود وشعيب وما شابههم، وكانت مقاومة الجهاز الفرعوني، بنفس النسبة أكثر وأكبر، ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران بأهمية أكبر، وحوى عبراً ونكات أكثر، وقد ركز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني إسرائيل بمناسبات مختلفة.
ولادة النبي موسى (عليه السلام):
كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطاً واسعاً لذبح (الأطفال)من بني إسرائيل حتى أن القوابل (من آل فرعون) يراقبن النساء الحوامل من بني إسرائيل.
ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودة مع أم موسى (عليه السلام)، وكان الحمل خفياً لم يظهر أثره على أم موسى، وحين أحست أم موسى بأنها مقرب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع، وأنها تحمل جنينها في بطنها وتوشك أن تضعه، فهي بحاجة هذا اليوم إليها.
وحين ولد موسى (عليه السلام) سطع نور بهي من عينية، فاهتزت القابلة لهذا النور وطبع حبه في قلبها، وأنار جميع زوايا قلبها.
ونقرأ حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في هذا الباب: «... فلما وضعت أم موسى (عليه السلام) نظرت إليه وحزنت عليه، واغتمت، وبكت، وقالت: تذبح الساعة، فعطف الله الموكلة بها عليه، فقالت لأم موسى: مالك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي وكان موسى (عليه السلام) لا يراه أحد إلا أحبه....» [1].
النبي موسى (عليه السلام) في التنور:
خرجت القابلة من بيت أم موسى (عليه السلام) فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت، فعرفت أخت موسى (عليه السلام) ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر، فارتبكت ولم تدر ماذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها (موسى (عليه السلام)) بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار، فلم يجدوا شيئا إلا التنور المشتعل ناراً.. فسألوا أم موسى (عليه السلام) عن سبب دخول القابلة عليها فقالت إنها صديقتي وقد جاءت زائرة فحسب، فخرجوا آيسين.
ثم عادت أم موسى (عليه السلام) إلى رشدها وصوابها وسألت (أخت موسى (عليه السلام)) عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور، فركضت إلى التنور فرأت موسى سالماً وفد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً (لله الذي نجى إبراهيم الخليل من نار النمرود) فأخرجت وليدها سالماً من التنور.
لكن الأم لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.
وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد، إلهام ظاهره أنه مدعاة للخطر، ولكن مع ذلك أحست بالاطمئنان أيضاً.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ)[2] كان ذلك من الله ولابد أن يتحقق فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.
فجاءت إلى نجار مصري (وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضاً) فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيراً.
فسألها النجار قائلاً: ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأم لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع، وإنها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق[3].
خرير الماء أضحى مهده:
لعل الوقت كان فجراً، والناس بعد نيام، وفي هذه الحال خرجت أم موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى، ثم ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل، وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج، فلولا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولا نكشف الأمر واتضح كل شيء، ولا أحد يستطيع أن يصور في تلك اللحظات الحساسة قلب الأم بدقة.
محبة موسى في القلوب:
تعالَوا لنرى ما يجري في قصر فرعون:
ورد في الأخبار أن فرعون كانت له بنت مريضة، ولم يكن من الأبناء سواها، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له: نتكهن ونتوقع أن إنساناً يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها، وكان فرعون وزوجه (آسية)في انتظار هذا (الحادث) وفي يوم من الأيام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار، فأمر فرعون عماله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!
ومثل الصندوق (المجهول) الخفي أمام فرعون، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.
نعم، كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه، وفتح الصندوق على يده فعلاً.
فلما وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها، ودخل حبه في قلوب الجميع، ولا سيما قلب امرأة فرعون (آسية)، وحين شُفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبته أكثر فأكثر[4].
ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصة من لسانه يقول القرآن في هذا الصدد: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً...)[5].
وبديهي أن الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحضانهم فيكون لهم عدواً ولدوداً، بل أرادوه كما قالت امرأة فرعون قرة عين لهم.
ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث، ولطافة التعبير كامنة في أن الله سبحانه يريد أن يبين قدرته، وكيف أن هذه الجماعة (الفراعنة) عبأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل، وإذا الذي أرادوا قتله - وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعز أبنائهم.
ويستفاد من القرآن الكريم أن شجاراً حدث ما بين فرعون وامرأته، ويحتمل أن بعض اتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه؛ لأن القرآن الكريم يقول في هذا الصدد: (وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً...).
ويلوح للنظر أن فرعون وجد في مَخايل الطفل والعلائم الأخرى، ومن جملتها إيداعه في التابوت (الصندوق)؛ وإلقاءه بين أمواج النيل، وما إلى ذلك أن هذا الطفل من بني إسرائيل، وأن زوال ملكه على يده، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم، وألقى على روحه ظله، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.
فأيده أتباعه المتملقون على هذه الخطة، وقالوا: ينبغي أن يُذبح هذا الطفل، ولا دليل على أن يجري هذا القانون عليه.
ولكن آسيه امرأة فرعون التي لم ترزق ولداً ذكراً، ولم يكن قلبها منسوجاً من قماش عمال قصر فرعون، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله. وإذا أضفنا قصة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى على ما قدمناه فسيكون دليلاً آخراً يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الأزمة.
ولكن القرآن بجملة مقتضبة وذات مغزى كبير ختم الآية قائلاً: (... وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)[6].
أجل، أنهم لم يشعروا أن أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطراً ولا أحد يستطيع أن يرد هذه المشيئة، ولا يمكن مخالفتها أبداً.
تخطيط الله العجيب:
إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوماً جبارين يرسل عليهم جنود السماوات والأرض، فيهلكهم ويدمرهم تدميراً.
إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم، يلهم قلوبهم بإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم، أن يصنعوا لأنفسهم سجناً يموتون فيه.
وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها..
وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا، وتمت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.
فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.
والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطياً.
والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.
والذي فتح باب الصندوق كان فرعون نفسه أو امرأته آسيه.
وأخيراً فإن المكان الآمن والهادئ الذي تربى فيه موسى البطل الذي قهر فرعون هو قصر فرعون ذاته، وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.
عودة موسى إلى حضن أمه:
أم موسى التي قلنا عنها: أنها القت ولدها في أمواج النيل، أقتحم قلبها طوفان شديد من الهم على فراق ولدها، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خالياً وفارغاً منه.
فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها، لكن لطف الله تداركها، وكما يعبر القرآن الكريم (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)[7].
وطبيعي تماماً أن أماً تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلا ولدها الرضيع، ويبلغ بها الدهور درجه لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.
ولكن الله الذي حمل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله، ولتعلم بأنه بعين الله، وإنه سيعود إليها وسيكون نبيا.
وعل أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان، ولكنها أحبت أن تعرف مصير ولدها، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثرة وتعرف خبره (وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ...).
فاستجابت - أخت موسى - لأمر أمها، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة، حتى بصر به من مكان بعيد، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه آل فرعون.. ويقول القرآن في هذا الصدد: (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ...).
ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أخته تتعقبه (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)[8].
وعلى كل حال، فقد أقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمه عاجلا ليطمئن قلبها، لذلك يقول القرآن الكريم: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ...).
طبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عدة ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع، فيجب البحث عن مرضع له، ولاسيما أن ملكة مصر - امرأة فرعون - تعلق قلبها به بشدة، وأحبته كروحها العزيزة.
كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له، والعجيب في الأمر أنه كان يأبى أثداء المرضعات.
لعل ذلك آت من استيحاشه من وجود المرضعات، أو أنه لم يكن يتذوق ألبانهن، إذ يبدو لبن كل منهن مراً في فمه، فكأنه يريد أن يقفز من أحضان المراضع، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى، إذ حرم عليه المراضع جميعاً، ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر، وهو يبكي، وعمال فرعون يدورون به بحثاً عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجاً، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتاً أظهرت نفسها بأنها لا تعرف الطفل: (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)[9].
إنني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبناً، وقلب طافح بالمحبة، وقد فقدت ولدها، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.
فسر بها هؤلاء، وجاؤوا بأم موسى إلى قصر فرعون، فلما شم الطفل رائحة أمه التقم ثديها بشغف كبير، وأشرقت عيناه سروراً.
لماذا ارضع من ثديها؟
حين استقبل موسى (عليه السلام) ثدي أمّه قال هامان وزير فرعون لأم موسى: لعلك أمّه الحقيقية؟ إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك؟! فقالت: أيها الملك لأني ذات عطر طيب، ولبني عذب، لم يأتني طفل رضيع إلا قبل بي، فصدّقها الحاضرون، وقدّموا لها هدايا ثمينة.
ونقرأ في هذا الصدد حديثاً، قال الرّاوي: قلت للإمام الباقر (عليه السلام): فكم مكث موسى غائباً من أمّه حتّى ردّه الله؟ قال (عليه السلام): «ثلاثة أيام...»[10].
وقال بعضهم: هذا التحرير التكويني؛ لأن الله لم يرد لموسى (عليه السلام) أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام، الملوّثة بأموال السرقة، أو الملوّثة بالجرائم، والرشوة، وغصب حقوق الآخرين، وإنما أراد لموسى (عليه السلام) أن يرضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.
وتمّ كل شيء بأمر الله (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)[11].
هنا ينقدح سؤال: هل انتقال موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة، أم أنه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته، وكان يتردّد ما بين القصر وبيته؟
قال بعض: أودع موسى (عليه السلام) بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته، وتربّى موسى(عليه السلام) عندهما، تُنقل بهذا الصدد قصص عريضة حول موسى(عليه السلام) وفرعون، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسى(عليه السلام) بعد بعثته (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)[12]، تدَّل بوضوح على أن موسى(عليه السلام) عاش في قصر فرعون مدّة، بل مكث هناك سنين طويلة.
موسى(عليه السلام) وحكاية المظلومين:
وهنا نواجه مرحلة أخرى من قصة موسى(عليه السلام) وما جرى له مع فرعون، وفيها مسائل تتعلّق ببلوغه، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثم سبب هجرته إلى مدين.
قال تعالى: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا...).
فما هي المدينة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق، لكن الاحتمال القوي أنها عاصمة مصر، وكما يقول البعض فإن موسى (عليه السلام) على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوماً بعد يوم حتى بلغت أوجهاً، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة، لكنه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.
والمقصود من جملة (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقة، ولكن أي حين وأي زمن هو؟
قال بعضهم: هو أوّل الليل؛ لأن الناس يتركون أعمالهم، ويعطّلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم، وجماعة يذهبون للتنزّه، وآخرون لأماكن أخرى.
وعلى كل حال، موسىّ دخل المدينة، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً، فاقترب من منطقة النزاع (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ...).
والتعبير بـ «شيعته» يدّل على أن موسى (عليه السلام) قبل أن يُبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل، وربما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة أساسية.
فلما بصر الإسرائيلي بموسى (عليه السلام) استصرخه (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ...).
فجاءه موسى (عليه السلام) لاستنصاره وتخليصه من عدوه الظالم الذي يقال عنه أنه كان طبّاخاً في قصر فرعون، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر، فضرب موسى (عليه السلام) هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ...)، موسى(عليه السلام) أَسِفَ على هذا الأمر (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)[13].
موسی (عليه السلام) يتوجه إلى مدين خفية:
إن خبر مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة، والقرائن المتعددة تدل على أن القاتل من بني إسرائيل، ولعل اسم موسی (عليه السلام) كان مذكوراً من بين بني إسرائيل المشتبه فيهم.
لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ...).
وهو على كل حال من الترقب والحذر، فوجئ في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسی أن ينصره (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ...).
ولكن موسی تعجب منه واستنكر فعله (قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)[14]؛ إذ تحدث كل يوم نزاعاً ومشادة مع الآخرين، وتخلق مشاكل ليس أوانها الآن، إذ نحن نتوقع أن تصيبنا تبعات ما جرى بالأمس، وأنت اليوم في صراع جديد أيضاً!
ولكنه كان على كل حال مظلوماً في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصراً في المقدمات أم لا) فعلی موسی (علیه السلام) أن يعينه وينصره ولا يتركه وحيداً في الميدان، (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا...)، صاح ذلك القبطي: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ) ويبدو من عملك هذا أنك لست إنساناً منصفاً، (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)[15].
وهذه العبارة تدل بوضوح على أن موسی (عليه السلام) كان في نيته الإصلاح من قبل، سواء في قصر فرعون أو خارجه، ونقرأ في بعض الروايات أن موسی (عليه السلام) كانت له مشادات كلامية مع فرعون في هذا الصدد، لذا فإن القبطي يقول لموسى: أنت كل يوم تريد أن تقتل إنساناً، فأي إصلاح هذا الذي تريده أنت؟! في حين أن موسی (عليه السلام) لو كان يقتل هذا الجبار، لكان يخطو خطوة أخرى في طريق الإصلاح..
وعلى كل حال فإن موسى التفت إلى أن ما حدث بالأمس قد انتشر خبره، ومن أجل أن لا تتسع دائرة المشاكل لموسى فإنه أمسك عن قتل الفرعوني في هذا اليوم.
قرار قتل موسی (عليه السلام):
ومن جهة أخرى فإن الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحس فرعون ومن معه في القصر أن تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر، فعقد جلسة شورى مع وزرائه وانتهى (مؤتمرهم) إلى أن يقتلوا موسى، وكان في القصر رجل له علاقة بموسی فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة، وكا يقول القرآن الكريم:
(وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)[16].
ويبدو أن هذا الرجل هو (مؤمن آل فرعون) الذي كان يكتم إيمانه ويدعی (حزقيل) وكان من أسرة فرعون، وكانت علاقته بفرعون وثيقة بحيث يشترك معه في مثل هذه الجلسات.
وكان هذا الرجل متألماً من جرائم فرعون، وينتظر أن تقوم ثورة (إلهية) ضده فيشترك معها.
ويبدو أنه كان له أمل كبير بموسی (عليه السلام) إذ كان يتوسم في وجهه رجلاً ربانیاً صالحاً ثورياً، ولذلك فحين أحس بأن الخطر محدق بموسى أوصل نفسه بسرعه إليه وأنقذه من مخالب الخطر، وسنری بعدئذ أن هذا الرجل لم يكن في هذا الموقف فحسب سنداً وظهيراً لموسی، بل كان يعد عيناً لبني إسرائيل في قصر فرعون في كثير من المواقف والأحداث.
أما موسی (عليه السلام) فقد تلقي هذا الخبر من هذا الرجل بجدية وقبل نصحه ووصيته في مغادرة المدينة (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ).
وتضرع إلى الله بإخلاص وصفاء قلب اليدفع عنه شر القوم و(قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[17].
فأنا أعلم يا رب أنهم ظلمة ولا يرحمون، وقد نهضت دفاعاً عن المحرومين بوجه الظالمين، ولم آل جهدا ووسع في ردع الأشرار عن الإضرار بالطيبين، فأسألك يا ربي العظيم أن تدفع عني أذاهم وشرهم.
أين كانت مَدْيَنَ ؟:
"مَدْيَنَ": اسم مدينة كان يقطنها "شعيب" وقبيلته، هذه المدينة كانت تقع في شرق خليج العقبة (وشمال الحجاز وجنوب الشامات)، وأهلها من أبناء إسماعيل "الذبيح" ابن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وكانت لهم تجارة مع مصر وفلسطين ولبنان.
موسى شاب تربّى في نعمة ورفاه، ويتجّه إلى سفر لم يسبق له في عمره ان سافر إليه، فلا زاد ولا متاع ولا صديق ولا راحلة ولا دليل، وكان قلقاً خائفاً، فلعلّ أصحاب فرعون سيدركونه قبل أن يصل إلى هدفه "مدين"، ويأسرونه ثم يقتلونه. فلا عجب أن يظلّ مضطرب البال!
إلا أنه كان لديه في هذا الطريق رأس مال كبير وكثير لا ينفذ أبداً، وهو الإيمان بالله والتوكل عليه، لذا لم يكترث بأي شيء وواصل السير... (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل)[18].
عمل صالح يفتح لموسى أبواب الخير:
نواجه هنا مقطعاً آخر من هذه القصة، وهي قضية ورود موسى (عليه السلام) إلى مدينة مدين.
بدأت معالم "مدين" تلوح له من بعيد شيئاً فشيئاً، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة، ولما اقترب ثم عرف بسرعة أنهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم.
يقول القرآن في هذا الصدد: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ...). فحركة هذا المشهد حفنة من الشبان الغلاظ، يملأون الماء ويسقون الأغنام، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم، بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم، وعليهم آثار العفّة والشرف، جاء إليهما موسى (عليه السلام) ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و(قَالَ مَا خَطْبُكُمَا...)، ولِمَ لا تتقدّمان وتسقيان الأغنام؟!
فقالت البنتان: إنهما تنتظران تفرّق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة أغنامهم: (قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ...). ومن أجل أن لا يسأل موسى: أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بإرسال بناته للسقي مكانه، أضافتا مكملتين كلامهما (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)[19]. فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام، وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلة لنا إلا أن نؤدي نحن هذا الدور.
فتقدّم وأخذ الدلو وألقاها في البئر يقال: إن هذه الدلو كان يجتمع عليها عدّة نفر ليخرجوها بعد امتلائها من الماء، إلا أن موسى (عليه السلام) استخرجها بقوته وشكيمته وهمّته بنفسه دون أن يعينه أحد (فَسَقَى لَهُمَا...). أغنامهما، ولكن موسى (عليه السلام) بالرغم من تعب السير في الطريق والجوع ملأ الدلو وسحبها بنفسه، وسقى أغنام المرأتين جميعها.. (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[20].
أجل إنه متعب وجائع، ولا أحد يعرفه في هذه المدينة، فهو غريب، وفي الوقت ذاته كان مؤدباً وإذا دعا الله فلا يقول: ربّ إني أريد كذا وكذا، بل يقول: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)؛ أي: إنه يكشف عن حاجته فحسب، ويترك الباقي إلى لطف الله سبحانه.
نعم، هلّم إلى العمل الصالح، فكم له من أثر محمود، وكم له من بركات عجيبة، خطوة نحو الله مِلء دلو من أجل إنصاف المظلومين، فتح لموسى فصلاً جديداً، وهيأ له من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية، ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث عنها سنين طوالاً.
وبداية هذا الفصل عندما جاءته إحدى البنتين تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة، ويظهر منها أنها تستحي من الكلام مع شاب غريب، (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ). فلم تزد على أن (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا...)[21].
أجل، لم يكن ذلك الشخص الكبير سوى "شعيب" النبي الذي كان يدعو الناس لسنين طوال نحو الله، كان مثلاً لمن يعرف الأمر يقرّر أن يؤدي ما عليه من الحقّ لهذا الشاب كائناً من كان.
موسى في بيت شعيب:
تحرك موسى (عليه السلام) ووصل منزل شعيب، وقد قيل إن البنت كانت تسير أمام موسى لتدله على الطريق، إلا أن الهواء كان يحرك ثيابها وربما انكشف ثوبها عنها، ولكن موسى لمِا عنده من عفة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير أمامها، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي إلى دار أبيها شعيب.
دخل موسى (عليه السلام) منزل شعيب (عليه السلام)، المنزل الذي يسطع منه نور النبوة، وتشع فيه الروحانية من كل مكان، وإذا شيخ وقور يجلس ناحية من المنزل يرحب بقدوم موسى (عليه السلام)، ويسأله: من أين جئت، وما عملك، وما تصنع في هذه المدينة، وما مرادك وهدفك هنا، ولِمَ أراك وحيداً؟!
وأسئلة من هذا القبيل يقول القرآن في هذا الصدد: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[22]. فأرضنا بعيدة عن سيطرتهم وسطوتهم ولا تصل أيديهم إلينا، فلا تقلق ولا تشعر نفسك الوحشة، فأنت في مكان آمن ولا تفكر بالغربة، فكل شيء بلطف الله سيتيسر لك.
فالتفت موسى إلى أنه وجد أستاذاً عظيماً تنبع من جوانبه عيون العلم والمعرفة والتقوى، وتغمر وجوده الروحانية ويمكن أن يروي ظمأه منه.
كما أحس شعيب أنه عثر على تلميذ جدير ولائق، وفيه استعداد لأن يتلقى علومه وينقل إليه تجارب العمر.
موسى صهر شعيب:
جاء موسى إلى منزل شعيب، منزل قروي بسيط، منزل نظيف ومليء بالروحية العالية، وبعد أن قص عليه قصته، بادرت إحدى بنتي شعيب بالقول وبعبارة موجزة: إنني أقترح أن تستأجره لحفظ الأغنام ورعايتها: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)[23]. هذه البنت التي تربت في حجر النبي الكبير، ينبغي أن تتحدث بمثل هذا الحديث الوجيز الكريم، وأن تؤدي الكلام حقه بأقل العبارات.
ترى من أين عرفت هذه البنت أن هذا الشاب قوي وأمين أيضاً؟ مع إنها لم تره الا لأول مرة على البئر، ولم تتضح لها سوابق حياته؟!
والجواب على هذا السؤال واضح وجلي إذ لاحظت قوته وهو ينحي الرعاء عن البئر ويملأ القربة الثقيلة لوحده ويطالب بحق المظلوم، وأما أمانته وصدقه فقد اتضحا لها منذ أن سارت أمامه إلى بيت أبيها، فطلب منها أن تتأخر ويتقدمها، لئلا تضرب الريح ثيابها.
أضف إلى ذلك من خلال نقله قصته لشعيب فقد اتضحت قوته في دفعه القبطي عن الإسرائيلي وقتله إياه بضربة واحدة وأمانته وصدقه في عدم مساومته الجبابرة. فرضي شعيب (عليه السلام) باقتراح ابنته، وتوجه إلى موسى و (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ) ثم أضاف قائلاً: (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ)[24]. واستجابة لهذا القرار والعقد الذي أنشأه شعيب مع موسى وافق موسى و(قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ)، ثم أردف مضيفاً بالقول: (أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ)؛ أي سواء قضيت عشر سنين أو ثماني سنين -حجج- فلا عدوان عليّ.
ومن أجل استحكام العقد بينهما جعل موسى (عليه السلام) الله كفيلاً وقال: (وَالله عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)[25].
أفضل أعوام عمر النبي موسى(عليه السلام):
لا يعلم أحد بدّقة ما جرى على النبي موسى (عليه السلام) في سنواته العشر مع شعيب (عليه السلام)، ولا شكّ أنّ هذه السنوات العشر كانت من أفضل سنوات العمر لموسى (عليه السلام) سنوات عذبة هادئة، سنوات هيأته للمسؤولية الكبرى.
كان على النبي موسى (عليه السلام) أنّ يعيش إلى جوار سكنة الأكواخ فترةً ليعرف همومهم وآلامهم، وأنّ يتهيأ لمواجهة سكنة القصور.
ومن جهة أُخرى كان النبي موسى (عليه السلام) بحاجة إلى زمن طويل ليفكر في أسرار الخلق وعالم الوجود وبناء شخصيته. فأيُّ مكان أفضل له من صحراء مدين، وأفضل من بيت شعيب (عليه السلام)؟!.
إنّ مسؤولية نبي من أُوْلِي العزم، ليست بسيطة حتى يمكن لكل فرد أنّ يتحملها، بل يمكن أنّ يُقال: إنّ مسؤولية النبي موسى (عليه السلام) - بعد مسؤولية النبي محمد (صلى الله عليه وآله) - من بيْن الأنبياء جميعاً كانت أثقل وأهم بالنظر لمواجهة الجبابرة على الأرض، وتخليص أمّة من أسرهم، وغسل آثار الأسر الثقافي من أدمغتهم.
إنّ شعيباً (عليه السلام) قرر تكريماً لأتعاب النبي موسى (عليه السلام) وجهوده معه أنّ يهب له ما تلده الأغنام في علائم خاصة، فاتفق أنّ ولدت جميع الأغنام أو أغلبها في السنة التي ودّع فيها موسى شعيباً (عليه السلام).
ومن البديهي أنّ النبي موسى (عليه السلام) لا يقنع في قضاء عمره برعي الغنم، وإنّ كان وجود (شعيب (عليه السلام)) إلى جانبه يعدّ غنيمة كبرى.
فعليه أنّ ينهض إلى نصرة قومه، وأن يخلّصهم من قيود الأْسر، وينقذهم من حالة الجهل وعدم المعرفة.
وعليه أن ينهي وجود الظلمة وحكام الجور في مصر، وأنّ يحطّم الأصنام، وأنّ يجد المظلومون العزة بالله معه، هذا الإحساس كان يدفع النبي موسى (عليه السلام) للسفر إلى قومه. وأخيراً جمع النبي موسى (عليه السلام) أثاثه ومتاعه وأغنامه وتهيأ للسفر.
الشّرارة الأُولى للوحي:
وعند عودته من مدين إلى وطنه أضاع الطريق، ولئلا يقع أسيراً بيد الظلمة من أهل الشام اختار طريقاً غير مطروق. وكانت زوجته (أهله) مُقرّباً، فأحسّت بوجع الطلق، فوجد النبي موسى (عليه السلام) نفسه بمسيس الحاجة إلى النّار لتصطلي المرأة بها، لكن لم يكن في الصحراء أيّ شيء، فلمّا لاحت له النّار من بعيد سُرّ كثيراً، وعلم أنّها دليل على وجود إنسان أو أُناس، فقال: سأمضي وآتيكم منها بخبر أو شعلة للتدفئة.
وعلى كل حال فإنّ القرآن يقول: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً....)، ثمّ التفت إلى أهله و(قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)[26]، أنّ الوقت كان ليلاً بارداً.
ولم يرد في الآية كلام عن حالة زوجة النبي موسى (عليه السلام)، ولكن المشهور أنّها كانت حاملاً وكانت تلك اللحظة قد أحست بالطلق وألم الولادة، وكان موسى قلقاً لحالها أيضاً.
(فَلَمَّا أَتَاهَا)؛ أي أتى النّار التي آنسها ورآها، وجدها ناراً لا كمثل النيران الأُخر فهي غير مقترنة بالحرارة والحريق، بل هي قطعة من النور والصفاء، فتعجب النبي موسى (عليه السلام) من ذلك: (نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا الله رَبُّ الْعَالَمِينَ)[27].
ولا شك أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الأمواج الصوتية في كل شيء، فأوجد في الوادي شجرة ليكلّم النبي موسى (عليه السلام)، وهو بشر له جسم وأذنان ولابدّ له ليسمع الكلام من أمواج صوتية، وطبيعي أن كثيراً من الأنبياء كان الوحي بالنسبة لهم إلهاماً داخلياً، وأحياناً يرون ما يوحى إليهم في (النوم) كما كان الوحي يأتيهم أحياناً عن طريق سماع الأمواج الصوتية.
وعلى كل حال فلا مجال للتوهم بأنّ الله جسم، تعالى الله عن ذلك.
فاخلع نعليك...
إن موسى (عليه السلام) حين اقترب من النّار، دقق النظر فلاحظ أن النّار تخرج من غصن أخضر وتضيء وتزداد لحظة بعد لحظة وتبدو أجمل، فانحنى موسى وفي يده غصن يابس ليوقده من النّار، فجاءت النّار من ذلك الغصن الأخضر إليه فاستوحش ورجع إلى الوراء، ثمّ رجع إليها ليأخذ منها قبساً فأتته ثانية، وهكذا مرّة يتجه بنفسه إليها ومرّة تتجه النّار إليه، وإذا النداء والبشارة بالوحي إليه من قبل الله سبحانه: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى)[28]. إنّ موسى (عليه السلام) قد أمر بخلع نعليه احتراماً لتلك الأرض المقدسة، وأنّ يسير بكل خضوع وتواضع في ذلك الوادي ليسمع كلام الحق.
وقد هام موسى لدى سماعه هذا النداء المحيي للروح: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) وأحاطت بكل وجود لذة لا يمكن وصفها، فمن هذا الذي يتحدث معي؟ إنّه ربّي الذي جللني بالفخر الكلمة (رَبُّكَ) ليُعلمني بأنّي قد تربيت وترعرعت منذ نعومة أظافري وإلى الآن في ظل رحمته وعناياه، وأصبحت مهيئاً لرحمة عظيمة.
لقد أُمر أن يخلع نعليه؛ لأنّه قد وضع قدمه في أرض مقدسة الأرض التي تجلى فيها النور الإِلهي، ويسمع فيه نداء الله، ويتحمل مسؤولية الرسالة، فيجب أن يخطو في الأرض بمنتهى الخضوع والتواضع، وهذا هو سبب خلعه النعل عن رجله.
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) فيما يتعلق بهذا الجانب يقول: «كن لما لا ترجوا أرجى منك لما ترجو، فإن موسى ابن عمران (عليه السلام) خرج ليقتبس لأهله ناراً، فرجع إليهم وهو رسول نبي...»[29]، وهي إِشارة إلى أن الإِنسان كثيراً ما يأمل أن يصل إلى شيء لكنه لا يصل إليه، إِلّا أن أشياء أهم لا أمل له في نيلها تتهيأ له بفضل الله.
عصا موسى (عليه السلام) واليد البيضاء:
لا شك أنّ الأنبياء يحتاجون إلى المعجزة لإِثبات ارتباطهم بالله، وإلّا فإنّ أي واحد يستطيع أن يدعي النّبوة، وبناء على هذا فإِن معرفة الأنبياء الحقيقيين من المزيفين لا يتيسر إِلّا عن طريق المعجزة، وهذه المعجزة يمكن أنّ تكون بذاتها دعوة وكتاباً سماوياً للنّبي، ويمكن أن تكون أُموراً أُخرى من قبيل المعجزات الحسية والجسمية.
على كل حال، فإن موسى (عليه السلام) بعد تلقيه أمر النّبوة، يجب أن يتلقى دليلها وسندها أيضاً، وهكذا تلقّى موسى (عليه السلام) في تلك الليلة المليئة بالذكريات والحوادث معجزتين كبيرتين من الله، ويبيّن القرآن الكريم هذه الحادثة فيقول: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)[30].
فأجاب موسى: (قَالَ هِيَ عَصَايَ) ولما كان راغباً في أن يستمر في حديثه مع محبوبه الذي فتح الباب بوجهه لأوّل مرّة، وربّما كان يظن أيضاً أن قوله: (هي عصاي) غير كاف، فأراد أن يبيّن آثارها وفوائدها فأضاف: «أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي...» أي أضرب بها على أغضان الشجر فتتساقط أوراقها لتأكلها الأغنام «وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى»[31].
من المعلوم ما للعصا لأصحابها من فوائد وموسى غط في تفكير عميق: أيّ سؤال هذا في هذا المجلس العظيم، وأيّ جواب أعطيه؟ وماذا كانت تلك الأوامر؟ ولماذا هذا السؤال؟: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ...).
ويوم اختار موسى(عليه السلام) هذه العصا ليتوكأ عليها للاستراحة، ويهشُّ بها على غنمه، ويرمي لها بهذه العصا أوراق الأشجار، لم يكن يعتقد أنّ في داخلها هذه القدرى العظيمة المودعة من قبل الله، وأنّ هذه العصا البسيطة ستهز قصور الظالمين. في هذه الحال سمع موسى (عليه السلام) مرة أُخرى النداء من الشجرة (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ)[32].
وعلى كل حال، كان على موسى (عليه السلام) أن يعرف هذه الحقيقة، وهي أنّه لا ينبغي له الخوف في الحضرة الإلهية؛ لأنّ الأمن المطلق حاكم هناك، فلا مجال للخوف إذاً.
آية من الرعب، آية من النور:
ما زال الكلام في قصة نبي الله موسى (عليه السلام)، حيث كانت المعجزة الأُولى آية (من الرعب)، ثمّ أمر أن يظهر المعجزة الثّانية وهي آية أُخرى (من النور والأمل) ومجموعهما سيكون تركيباً من (الإنذار)و(البشاره) إذْ جاءه الأمر (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ...) فالبياض الذي يكون على يده للناس لم يكن ناشئاً عن مرض ـ كالبرص ونحوه ـ بل كان نوراً إلهياً جديداً.
لقد هزّت موسى (عليه السلام) مشاهدته لهذه الأُمور الخارقة للعادات في الليل المظلم وفي الصحراء الخالية.. ومن أجل أن يهدأ روع موسى من الرهب، فقد أمر أن يضع يده على صدره (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ...).
وجاء موسى النداءُ معقّباً: (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)[33].
فهم طائفة خرجت عن طاعة الله وبلغ بهم الطغيان مرحلة قصوى فعليك يا موسى أن تؤدي وظيفتك بنصحهم، وإلّا واجهتهم بما هو أشد.
طلب أسباب النصر:
ومضافاً إلى أن موسى (عليه السلام) لم يستوحش ولم يخف من هذه المهمّة الثقيلة الصعبة، ولم يطلب من الله أي تخفيف في هذه المهمة. ولما كان أهم وأول أسباب النصر الروح الكبيرة، والفكر الوقّاد، والعقل المقتدر، وبعبارة أُخرى: رحابة الصدر، فقد (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)[34].
نعم إنّ أوّل رأسمال لقائد ثوري هو رحابة الصدر، والصبر الطويل، والصمود والثبات، والشهامة وتحمل المشاكل والصعاب.
ولما كان هذا الطريق مليئاً بالمشاكل والصعاب التي لا يمكن تجاوزها إلّا بلطف الله، فقد طلب موسى من الله في المرحلة الثّانية أن تُيسر له أُموره وأعماله، وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه، فقال: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي)[35].
ثم طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال: (واحلل عقدة من لساني) فصحيح أن امتلاك الصدر الرحب أهم الأُمور والأسس، إلّا أنّ بلورة هذا الأساس تتمّ إِذا وجدت القدرة على إِراءته وإظهاره بصورة كاملة، ولذلك فإِنّ موسى بعد طلب انشراح الصدر، ورفع الموانع والعقبات، طلب من الله حل العقدة من لسانه.
خاصةً وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال: (يَفْقَهُوا قَوْلِي)[36]. فهذه الجملة في الحقيقة تفسير للآية التي قبلها، ومنها يتّضح أنّ المراد من حلّ عقدة اللسان لم يكن هو التلكؤ وبعض العسر في النطق الذي أصاب لسان موسى (عليه السلام) نتيجة احتراقه في مرحلة الطفولة كما نقل ذلك بعض المفسرين عن ابن عباس- بل المراد عقد اللسان المانعة من إِدراك وفهم السامع، أي أريد أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغى والتعبير، بحيث يدرك أي سامع مرادي من الكلام جيداً.
وعلى كل حال، فإِنّ القائد والقدوة والموفق والمنتصر هو الذي يمتلك إِضافة إلى سعة الفكر وقدرة الروح، بياناً أخاذاً بليغاً خالياً من كل أنواع الإِبهام والقصور.
ولما كان إِيصال هذا الحمل الثقيل- حمل رسالة الله، وقيادة البشر وهدايتهم، ومحاربة الطواغيت والجبابرة - إلى المحل المقصود يحتاج إلى معين ومساعد، ولا يمكن أن يقوم به إِنسان بمفرده، فقد كان الطلب الرابع لموسى من الله هو: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي)[37].
أخي رفيقي:
لماذا طلب موسى (عليه السلام) أن يكون هذا الوزير من أهله؟ فسببه واضح، لأنّه يعرفه جيداً، ومن جهة أُخرى فإنّه أحرص من غيره، فكم هو جيد وجميل أن يستطيع الانسان أن يتعاون مع شخص تربطه به علائق روحية وجسمية؟!
ثمّ يشير إلى أخيه، فيقول: (هَارُونَ أَخِي)، وهارون حسب نقل بعض المفسّرين- كان الأخ الأكبر لموسى، وكان يكبره بثلاث سنين، وكان طويل القامة، جميلاً بليغاً، عالي الإِدراك والفهم، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين[38].
وقد كان نبيّاً مرسلاً كما يظهر من الآية (45) من سورة المؤمنون: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ). وكذلك كانت له بصيرة بالأُمور وميزاناً باطنياً لتمييز الحق من الباطل، كما ورد في الآية (48) من سورة الأنبياء: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ)، وأخيراً فقد كان نبيّاً وهبه الله لموسى من رحمته:
(وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً)[39]. فقد كان يسعى جنباً إلى جنب مع أخيه في أداء هذه الرسالة الثقيلة.
صحيح أن موسى (عليه السلام) حينما طلب ذلك من الله في تلك الليلة المظلمة في الوادي المقدس حيث حُمّل الرسالة، كان قد مضى عليه أكثر من عشر سنين بعيداً عن وطنه، إلا أن ارتباطه -عادة- بأخيه لم يقطع بصورة كاملة، بحيث أنّه يتحدث بهذه الصراحة عنه، ويطلب من الله أن يشاركه في هذا البرنامج الكبير.
ثمّ يبيّن موسى (عليه السلام) هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول: (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي)[40]. ويطلب، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب: (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)[41]. فيكون شريكاً في مقام الرسالة، وفي إجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير، إلّا أنّه يتبع موسى على كل حال، فموسى إمامه ومقتداه.
وفي النهاية يبيّن نتيجة هذه المطالب فيقول: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً)[42]. وتعلم حاجاتنا جيداً، ومُطَّلِع على مصاعب هذا الطريق أكثر من الجميع، فنحن نطلب منك أن تعيننا على طاعتك، وأن توفقنا وتؤيدنا في أداء واجباتنا ومسؤولياتنا الملقاة على عاتقنا.
ولما كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة إلّا هذه الخدمة الأكثر والأكمل، فإِنّ الله سبحانه قد لبى طلباته في نفس الوقت (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)[43].
إنّ موسى في الواقع طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإِلهية ويطأ بساطها، والله سبحانه كان يحب ضيفه أيضاً، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة، وبدون قيد وشرط ثمّ وبتكرار اسم موسى أكمل له الاستجابة وحلاوتها وإنزال كل ابهام عن قلبه، وأي تشويق وافتخار أن يكرر المولى اسم العبد؟
النبي موسى (عليه السلام) في مواجهة فرعون:
انتهت المرحلة الأُولى لمأمورية موسى (عليه السلام) وهي موضوع الوحي (والرسالة)، وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير، وتعقيباً على المرحلة الآنفة تأتي المرحلة الثّانية، أي مواجهة موسى وهارون لفرعون، والكلام المصيري الذي جرى بينهم. هذا ما سوف نتحدث به في الحلقة القادمة.
موسى في مواجهة فرعون:
ما زال الكلام في قصة نبي الله موسى (عليه السلام)... انتهت المرحلة الأُولى لمأمورية موسى(عليه السلام) وهي موضوع الوحي (والرسالة)، وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير.
وتعقيباً على المرحلة الآنفة تأتي المرحلة الثّاني؛ أيّ: مواجهة موسى وهارون لفرعون، والكلام المصيري الذي جرى بينهم.
يقول القرآن الكريم مقدمةً لهذه المرحلة: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[44]. وضمن دعوتكما لفرعون بأنّكما رسولا ربّ العالمين اطلبا منه أن يُرسل بني إسرائيل ويرفع يده عنهم: (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)[45].
وبديهي أن المراد من الآية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل العبوديّة والقهر والاستعباد، ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون، وليس المراد هو إرسال بني إسرائيل معهما فحسب.
وصل موسى (عليه السلام) إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حُمِّلَ، وأبلغه الرسالة الملقاة عليهما. فذهبا معاً إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله، وبعد عناء شديد استطاعا أن يصلا إلى فرعون وقد حف به مَنْ في القصر من جماعته وخاصته، فأبلغاه الدعوة إلى الله ووحدانيّته.
وهنا يلتفت فرعون فيتكلم بكلمات مدروسة وممزوجة بالخبث والشيطنه لينفي الرسالة ويقول لموسى: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً...) إذْ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فأنقذناك من الهلاك، وهيّأنا لك مرضعة، وعفونا عن الحكم الصادر في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشمولاً به، فتربّيت في محيط هادىء آمن منعّماً، وبعد أن تربيت في بيتنا عشت زماناً (...وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)[46].
ثمّ توجه موسى وذكرّه بموضوع قتل القبطي فقال: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ...).
إشارةً إلى أنه كيف يمكنك أن تكون نبيّاً ولديك مثل هذه السابقة؟!
ثمّ بعد هذا كله: (وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ)[47]؛ (أيّ بنعمة فرعون) فلطالما جلست على مائدتنا وتناولت من زادنا فكيف تكون نبيّاً وأنت كافر بنعمتي؟!
وفي الحقيقة؛ كان فرعون يريد أن يجعل موسى محكوم بهذه التهم الموجهة إليه، وبهذا المنطق الاستدراجي.
(أو أنه أساساً لم يجد الإشكال الأوّل يستحق الإجابة؛ لأن تربية الشخص لا تكون دليلاً على عدم جواز هداية مربّيه إن كان المربي ضالاً، ليسلك سبيل الرشاد).
وعلى كل حال أجابه موسى (عليه السلام):
(قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ)[48]؛ أيّ: إن موسى كانت ضربته للرجل القبطي لا بقصد القتل، بل لكي يحمي المظلوم ويدافع عنه، ولم يدر أنّه ستؤول ضربته إلى الإجهاز عليه وقتله، (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ) [49].
ثمّ يردّ موسى (عليه السلام) على كلام فرعون الذي يمنُّ به عليه في أنّه ربّاه وتعهده منذ طفولته وصباهُ، معترضاً عليه بلحن قاطع فيقول: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)[50].
صحيح أنّ يد الحوادث ساقتني ـ وأنا طفل رضيع ـ إلى قصرك، لأتربّى في كنَفُكَ، وكان في ذلك بيان لقدرة الله، لكن ترى كيف جئت إليك؟ ولم لا تربيتُ في أحضان والديّ وفي بيتهما؟!
ألم يكن ذلك لأنّك عبّدت بني إسرائيل وصفّدت أيديهم بنير الأسر حتى أمرت أن يُقتل الأطفال الذكور وتستحيا النساء للخدمة؟!
فهذا الظلم المفرط من قبلك، كان سبباً لأن تضعني أُمي في الصندوق حفاظاً عليّ، وتلقيني في أمواج النيل، وكانت مشيئة الله أن تسوق الأمواج (زورقي) الصغير حتى توصله إلى قصرك، أجل إن ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين منّتك وحرمني من بيت أبي الكريم، وصيَّرني في قصرك الملوّث.
الاتهام بالجنون:
حين واجه موسى (عليه السلام) فرعون بلهجة شديدة، وأجابه بضرس قاطع، وأفحم فرعون في ردّه، غيّر فرعون مجرى كلامه، وسأل موسى عن معنى كلامه أنّه رسول ربّ العالمين، و(قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)[51]، المستبعد جدّاً أن يكون فرعون قد سأل موسى (عليه السلام) هذا السؤال لفهم الحقيقة ومعرفة الموضوع، بل يبدو أنّه سأله متجاهلاً ومستهزئاً.
إلّا أنّ موسى -على كل حال- لم يجد بُداً كسائر الباحثين الواعين اليقظين، إنّ يجيب على فرعون بجدّ، وحيث أن ذات الله سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس، فإنّهُ أخذ يحدّثه عن آيات الله في الآفاق وآثاره الحيّة إذْ (قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ)[52].
فالسموات بما فيهن من عظمة، والأرض على سعتها، والموجودات المتعددة بألوانها بحيث لا تساوي أنت وقصرك بإزائها إلّا ذرّة، فمثل هذا الخالق المدبّر لهذا العالم جدير بالعبادة، لا الموجود الضعيف التافه مثلك!
إلّا أنّ فرعون لم يتيقظ من نومة الغافلين بهذا البيان المتين المحكم لهذا المعلم الكبير الرّباني السماوي. فعاد لمواصلة الاستهزاء والسخرية، واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور،
و(قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ)[53]، ومعلوم مَن هم الذين حول فرعون اتهام موسى بالجنون فـ (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ)[54]، وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الرّبانيين.
وممّا يستجلب النظر أنّ هذا الضالَّ المغرور لم يكن مستعدّاً حتى لأن يقول: (إنّ رسولنا الذي أرسل إلينا)، بل قال: (...إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)[55]؛ لأنّ التعبير برسولكم -أيضاً- له طابع الاستهزاء المقترن بالنظرة الاستعلائية؛ يعني: إنّني أكبر من أن يدعوني رسول، وكان الهدف من اتهامه موسى بالجنون هو إحباط وإفشال منطقه القويّ المتين لئلا يترك أثراً في أفكار الحاضرين.
إلّا أنّ هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى (عليه السلام) ومعنوياته العالية، وواصل بيان آثار الله في عالم الإيجاد في الآفاق والأنفس، مبيناً خط التوحيد الأصيل فـ (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)[56].
فإذا كنت ـ يا فرعون ـ تحكم حكما ظاهريّاً في أرض محدودة تدعى مصر، فإنّ حكومة ربّي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعاً، وآثاره تشرق في وجوه الموجودات، وأساساً فإنّ هذه الشمس في شروقها وغروبها وما يتحكم فيها من نظام، كل ذلك بنفسه آية له ودليل على عظمته، إلّا أنّ العيب كامن فيكم؛ لأنّكم لا تعقلون، ولم تعتادوا التفكير.
وفي الواقع إنّ موسى (عليه السلام) أجاب عن اتهامهم إياه بالجنون بأسلوب بليغ بأنّه ليس مجنوناً، وأنّ المجنون هو مَنْ لا يرى كل هذه الآثار ودلائل وجود الخالق، والعجيب أنّه مع وجود الآثار على باب الدار والجدار، فإنّه يوجد مَن لا يفكر في هذه الآثار!.
غير أنّ هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة، فالتجأ إلى استعمال (حربةٍ) يفزع إليها المستكبرون عند الاندحار، و(قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ)[57].
فأنا لا أعرف كلماتك، إنّما أعرف وجود إلهٍ ومعبود كبير وهو أنا، ومَن قال بغيره فهو محكوم بالإعدام أو السجن!.
وفي الواقع كان فرعون يريد أن يُسكت موسى بهذا المنطق الارهابي؛ لأنّ مواصلة موسى(عليه السلام) بمثل هذه الكلمات ستكون سبباً في إيقاظ الناس، وليس أخطر على الجبابرة من شيء كإيقاظ الناس.
إعجاز آخر:
أظهر النبي موسى(عليه السلام) إعجازاً آخر، حينما أدخل يده في جيبه (أعلى الثوب) وأخرجها فإذا هي بيضاء منيرة: (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ)[58].
في الحقيقة إن هاتين المعجزتين الكبيرتين، إحداهما كانت مظهر الخوف، والآُخرى مظهر الأمل، فالأُولى تناسب مقام الإنذار، والثّانية للبشارة. والأُولى تبيّن عذاب الله، والأُخرى نورٌ وآية رحمة؛ لأنّ المعجزة ينبغي أن تكون منسجمةً مع دعوة النّبي (عليه السلام).
غير أن فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة، ولكي يحافظ على قدرته الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى (عليه السلام)، وكذلك من أجل أن يرفع من معنويات أصحابه والملأ من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها، فقد (قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)[59].
اتهام فرعون لموسى بالجنون:
ذلك الإنسان الذي كان يدعوه مجنوناً إلى لحظات آنفة، وإذا هو الآن يعبر عنه بالعليم، وهكذا هي طريقة الجبابرة وأسلوبهم، حيث تتبدل كلماتهم في مجلس واحد عدّة مرّات، ويحاولون التشبث بأي شيءٍ للوصول إلى هدفهم.
وكان فرعون يعتقد أن اتهام موسى بالسحر ألصق به وأكثر قبولاً عند السامعين؛ لأنّ ذلك العصر كان عصر السحر، فإذا أظهر موسى(عليه السلام) معاجزه فمن اليسير توجيهها بالسحر.
ومن أجل أن يعبّىء الملأ ويُثيرَ حفيظتهم ضد موسى (عليه السلام)، قال لهم: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)[60].
والغريب في الأمر أن فرعون الذي قال هذا الكلام هو الذي كان يقول من قبل: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ...)[61].
والآن حيث يرى عرشه متزعزعاً ينسى مالكيته المطلقة لهذه الأرض، ويعدّها ملكَ الناس فيقول لهم: أرضكم في خطر، إن موسى يريد أن يخرجكم من أرضكم، ففكروا في حيلة. فرعون هذا لم يكن قبل ساعة مستعداً لأن يصغي لأحد، كان الآمر بلا منازع، أمّا الآن فهو في حرج شديد يقول لمن حوله:
(مَاذَا تَأْمُرُونَ)[62].
إنّها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف فحسب!
وبعد المشاورة فيما بينهم التفت الملأ من قوم فرعون إليه و (قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ)[63]؛ أي أمهلهما وابعث رسلك إلى جميع المناطق والأمصار (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)[64].
اجتماع السحرة من كلّ مكانٍ:
تحرك المأمورون بحسب اقتراح أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم، وكان الموعد المحدد (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [65].
الحضور في هذا المشهد: (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ)[66]. وهذا التعبير يدلّ على أنّ المأمورين من قِبَلِ فرعون بذلوا قصارى جهودهم في هذا الصدد، وكانوا يعلمون أنّهم لو أجبروا الناس على الحضور لكان ردّ الفعل سلبيّاً؛ لأنّ الإنسان يكره الإجبار ويعرض عنه بالفطرة لذلك قالوا: هل ترغبون في الحضور؟ وهل أنتم مجتمعون؟.
وقيل للناس: إن الهدف من هذا الحضور والاجتماع هو أنّ السحرة إذا انتصروا فمعنى ذلك انتصار الآلهة وينبغي علينا اتباعهم: (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ)[67]. فلابدّ من تهييج الساحة للمساعدة في هزيمة عدو الآلهة إلى الأبد.
وكان فرعون قلقاً مضطرب البال؛ لأنّه في طريق مسدود، وكان مستعدّاً لأن يمنح السحرة أقصى الامتيازات، لذلك فقد أجابهم بالرضا و(قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ)[68]؛ أي إن فرعون قال لهم: ما الذي تريدون وتبتغون؟! المال أم الجاه، فكلاهما تحت يديّ.
المشهد العجيب لسحر السحرة:
حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالأجر والقرب منه، وشدّ من عزمهم، فإنّهم بدأوا بتهيئة المقدمات ووفروا خلال ما سنحت لهم الفرصة عصيّهم وحبالهم، ويظهر أنّهم صيّروها جوفاء وطلوها بهادة کیمیائية كالزئبق، بحيث تتحرك وتلمع عند شروق الشمس عليها!
وكعادة القرآن في حذف المقدمات المفهومة من خلال الآيات المذكورة، والشروع بذكر أصل الموضوع، فيتحدّث عن مواجهة موسى للسحرة حيث التفت إليهم و: (... قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ).[69]
ويستفاد من القرآن الكريم أن موسی (عليه السلام) قال ذلك عندما سألوه السحرة: هل تلقي أنت أولاً أم نلقي نحن أولاً؟
وهذا الاقتراح من قبل موسی (عليه السلام) يدل على أنه كان مطمئناً لانتصاره، ودليلاً على هدوءئه وسكينته أمام ذلك الحشد الهائل من الأعداء وأتباع فرعون... كان هذا الاقتراح يُعدَ أوّل (ضربة) يدمغ بها السحرة، ويبيّن فيها أنه يتمتع بالهدوء النفسي الخاص، وأنه مرتبط بمكان آخر ومتصل به.
وأمّا السحرة الغارقون بغرورهم، والذين بذلوا أقصى جهودهم لانتصارهم في هذا (الميدان)، فقد كانوا مستعدين ومؤملين لأن يغلبوا موسی (عليه السلام) (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ)[70].
أجل، لقد استندوا إلى عزّة فرعون کسائر المتملقين، وبدأوا باسمه وقدرته الواهية!
وهنا - كما يبين القرآن - تحركت العصي كأنها الأفاعي والثعابين: (... فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى).[71]
إن المشهد الذي أوجده السحرة كان عظيماً ومهماً، ومدروساً ومهيباً، كان عدد السحرة يبلغ عشرات الألوف، وكانت الأجهزة والوسائل المستعملة كذلك تبلغ عشرات الآلاف، ونظراً إلى أن السحرة المهرة والمحترفين لهذا الفن كانوا في ذلك العصر كثيرين جداً، لهذا لا يكون هذا الكلام موضع استغراب وتعجب. خاصة أن القرآن الكريم يقول: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [72]؛ أي إن المشهد كان عظيماً جداً ورهيباً إلى درجة أن موسی شعر بالخوف قليلاً، وإن كان ذلك الخوف لأجل أنه خشي أن من الممكن أن يتأثر الناس بذلك المشهد العظيم، فيكون إرجاعهم إلى الحق صعباً، وعلى أي حال فإنّ ذلك يكشف عن عظمة ذلك المشهد ورهبته.
نور الإيمان في قلب السحرة:
إلا أن موسی (عليه السلام) لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير، فتقدم (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ...) فتحولت إلى ثعبان عظیم وبدأت بالتهام وسائل وأدوات السحرة بسرعة بالغة: (عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ).[73]
وهنا طاف صمت مهيب على وجوه الحاضرين وغشّاهم الوجوم وفغرت الأفواه من الدهشة والعجب، وجمدت العيون، ولكن سرعان ما انفجر المشهد بصراخ المتفرجين المذعورين ففر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد، وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة...
وتبدل كل شيء، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا إلى تلك اللحظة مع فرعون غارقين في الشيطنة، ولأنهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه، فإنهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن سحراً، بل هي معجزة إلهية كبری: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)[74] .
الطريف أن القرآن يعبر عن خضوع السحرة بـ (أُلقي) وهذا التعبير إشارة إلى منتهى التأثير وجاذبية معجزة موسی لهم، حتى كأنهم سقطوا على الأرض وسجدوا دون اختيارهم... واقترن هذا العمل العبادي ـ وهو السجود ـ بالقول بلسانهم فـ (قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ).[75]
ولئلا يبقى مجالٌ للإبهام والغموض والتردد، ولئلا يفسر فرعون ذلك تفسيراً آخر فإنهم قالوا: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ).[76]
وهذا التعبير يدل على أنه وإن كان موسی (عليه السلام) متکفلاً لأمر المبارزة وإلقاء العصا ومحاججة السحرة، إلا أن أخاه هارون كان يعاضده في الأمر، وكان مستعد لتقديم أي عون لأخيه.
(آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)، بعد هذه الحادثة...
وجد فرعون نفسه مهزوماً معنوياً ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر، وخاصّة أنه كان يعرف أيّ تأثيير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ...).
لقد تربع على عرش الاستبداد سنين طوالاً، ولم يكن يترقب من الناس أن لا يسجدوا أو يقوموا بعمل دون إذنه فحسب، بل كان ترقُّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره، فليس لهم أن يفكّروا دون اذنه، وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبريين.
هذا المغرور الطائش لم يكن مستعدّاً لأن يذكر اسم الله ولا اسم موسى، بل اكتفى بالقول (آمَنتُمْ بِهِ)، والمراد من هذا التعبير هو التحقير!
إلّا أن فرعون لم يقتنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين أُخريين ليُثّبت موقعه كما يتصوّر أوّلاً، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً.
فاتّهم السحرة أوّلاً بأنّهم تواطؤوا مع موسى (عليه السلام) وتآمروا على أهل مصر جميعاً، فقال: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ...).
وقد اتفقتم مع موسى من قبل قبل أن تردوا هذه الساحة، فتضلوا أهل مصر وتجرّوهم إلى الخضوع تحت سيطرة حكومتكم، وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وتُحلّوا العبيد محلهم، إلّا أنني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها: (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين)[77]؛ أيّ: لا أكتفي بإعدامكم فحسب، بل أقتلكم قتلاً بالتعذيب والزجر بين الملأ، وعلى جذوع النخل؛ لأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف يؤدي إلى الموت البطيء، فيذوق معه الإنسان التعذيب أكثر.
(لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ):
إلّا أن فرعون لم يحقق هدفه هنا؛ لأن السحرة قبل لحظة -والمؤمنين في هذه اللحظة- قد غمر قلوبهم الإيمان، وأضرمهم عشق الله؛ بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس قاطع وأحبطوا خطته و(قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ)[78].
فأنت بهذا العمل لا تنقصّ منّا شيئاً، بل توصلنا إلى معشوقنا الحقيقي والمعبود الواقعي، فيوم كانت هذه التهديدات تؤثر فينا لم نعرف أنفسنا ولم نعرف ربّنا، وكنّا، ضالين مضلين، إلّا أنّنا عثرنا اليوم على ضالتنا (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ).
ثمّ أضافوا بأنّهم واجهوا النّبي موسى (عليه السلام) من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيراً، ولكن مع ذلك فـ (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)[79].
إنّنا لا نستوحش اليوم من أي شيء، لا من تهديداتك، ولا من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ولا من الصلب على جذوع النخل.
وإذا كنّا نخاف من شيء، فإنّما نخاف من ذنوبنا الماضية، ونرجوا أن تمحى في ظل الإيمان وبفضل الله ولُطْفهِ!
أية طاقة وقوّة هذه التي إن وُجدت في الإنسان صغرت عندها أعظم القوى، وهانت عنده أشد الأُمور، وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية والإيثار؟!
إلّا أن هذا المشهد -على كل حال- كان غالياً وصعباً على فرعون وقومه، بالرغم من أنّه طبّق تهديداته -طبقاً لبعض الروايات- فاستشهد على يديه السحرة المؤمنون، إلّا أن ذلك لن يكفئ عواطف الناس تجاه موسى فحسب، بل أثارها أكثر فأكثر.
ففي كل مكان كانت أصداء النّبي الجديد، وفي كل حدب وصوب حديث عن أوائل الشهداء المؤمنين، وهكذا آمن جماعة بهذا النحو، حتى أن جماعة من قوم فرعون وأصحابه المقربين حتى زوجته آمنوا بموسى أيضاً.
وآمنت امرأة فرعون:
ما زال الكلام في قصة النبي موسى (عليه السلام) ... حيث إنّ زوجة فرعون (آسية) قد آمنت منذ أن رأت معجزة موسى (عليه السلام) أمام السحرة، واستقرّ قلبها على الإيمان، لكنّها حاولت أن تكتم إيمانها، غير أن الإيمان برسالة موسى وحبّ الله ليس شيئاً يسهل كتمانه، وبمجرّد أن اطّلع فرعون على إيمانها نهاها مرّات عديدة وأصرّ عليها أن تتخلّى عن رسالة موسى وربّه، غير أنّ هذه المرأة الصالحة رفضت الاستسلام إطلاقاً.
وأخيراً أمر فرعون أن تُثبت يداها ورجلاها بالمسامير، وتترك تحت أشعة الشمس الحارقة، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة. وفي تلك اللحظات الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت: (...رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[80]، وقد استجاب لها ربّها وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صفّ مريم.
في رواية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله): «...أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محّمد، ومريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون»[81].
ومن الطريف أنّ امرأة فرعون كانت تستصغر بيت فرعون ولا تعتبره شيئاً مقابل بيت في الجنّة وفي جواره تعالى، وبذلك أجابت على نصائح الناصحين في أنّها ستخسر كلّ تلك المكاسب وتحرم من منصب الملكة (ملكة مصر) وما إلى ذلك؛ لسبب واحد هو أنّها آمنت برجل راعٍ كموسى.
لم تستطع بهارج الدنيا وزخارفها التي كانت تنعم بها في ظلّ فرعون، والتي بلغت حداً ليس له مثيل. لم تستطع كلّ تلك المغريات أن تثنيها عن نهج الحقّ، كما لم تخضع أمام الضغوط وألوان العذاب التي مارسها فرعون. وقد واصلت هذه المرأة المؤمنة طريقها الذي اختارته رغم كلّ الصعاب واتّجهت نحو الله معشوقها الحقيقي.
وتجدر الإشارة إلى أنّها كانت ترجو أن يبني الله لها بيتاً عنده في الجنّة لتحقيق بعدين ومعنيين: المعنى المادّي الذي أشارت إليه بكلمة (في الجنّة)، والبعد المعنوي وهو القرب من الله (عندك) وقد جمعتهما في عبارة صغيرة موجزة.
قرار قتل النبي موسى (عليه السلام):
لقد اشتد الصراع بين موسى (عليه السلام) وأصحابه من جانب، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر، ووقعت حوادث كثيرة، لا يذكر القرآن عنها كثيراً في هذه الفقرة، ولتحقيق هدف خاص يذكر القرآن أنّ فرعون قرّر قتل موسى (عليه السلام)
لمنع انتشار دعوته وللحيلولة دون ذيوعها، لكنّ المستشارين من (الملأ) من القوم عارضوا الفكرة.
يقول تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ...).
نستفيد من الآية أن بعض مستشاري فرعون على الأقل كانوا يعارضون قتل موسى، لخوفهم أن يطلب (عليه السلام) من ربّه نزول العذاب بساحتهم، لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية، إلّا أنّ فرعون ـ بدافع غروره ـ يصر على قتله مهما كانت النتائج.
وبالطبع، فإنّ سبب امتناع (الملأ) عن تأييد فكرة فرعون في قتل موسى غير معلوم، فهناك احتمالات كثيرة قد يكون بعضها أو كلّها صحيحة...
فقد يكون الخوف من العذاب الإلهي ـ كما احتملنا ـ هو السبب.
وقد يكون السبب خشية القوم من تحوّل موسى (عليه السلام) بعد استشهاده إلى هالة مقدّسة، وهو ممّا يؤدي إلى زيادة عدد الأتباع والمؤمنين بدعوته.
إنّ هؤلاء يعتقدون أنّ موسى (عليه السلام) مجرّد حادث صغير ومحدود، بينما يؤدي قتله في مثل تلك الظروف إلى أن يتحول إلى تيار... تيارٌ كبير يصعب السيطرة عليه.
البعض الآخر من المقربين لفرعون ممَن لا يميل إليه، كان يرغب ببقاء موسى (عليه السلام) حياً حتى يشغل فكر فرعون دائماً، كي يتمكن هؤلاء من العيش بارتياح بعيداً عن عيون فرعون، ويفعلون ما شاؤوا من دوم رقابته.
وهذا الأمر يعبّر عن (سليقة) في بلاط السلاطين، إذ يقوم رجال الحاشية ـ من هذا النوع ـ بتحريك بعض أعداء السلطة حتى ينشغل الملك أو السلطان بهم، وليأمنوا هم من رقابته عليهم، كي يفعلوا ما يريدون.
[1] تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج2، ص135.
[2] سورة القصص: آية 7.
[3] مقتبس من قصـص الأنـبـيـاء لشيخ مكارم الشيرازي.
[4] نقلاً عن تفسير الأمثل: ج12، ص184
[5] سورة القصص: آية 8.
[6] سورة القصص: آية9.
[7] سورة القصص: آية 10.
[8] سورة القصص: آية 11.
[9] سورة القصص: آية 12.
[10] تفسير القمي: ج2، ص136.
[11] سورة القصص: آية 13
[12] سورة الشعراء: آية 18.
[13] سورة القصص: آية 15.
[14] سورة القصص: آية 18.
[15] سورة القصص: آية 19.
[16] سورة القصص: آية 20.
[17] سورة القصص: آية 21.
[18] سورة القصص: آية 22.
[19] القصص: آية 23.
[20] القصص: آية 24.
[21] القصص: آية 25.
[22] سورة القصص: آية 25.
[23] سورة القصص: آية 26.
[24] القصص: آية 27.
[25] سورة القصص: آية 28.
[26] سورة القصص: آية 29.
[27] سورة القصص: آية 30.
[28] سورة طه: آية 12.
[29] كمال الدين، الشيخ الصدوق: ص152.
[30] سورة طه: آية 17.
[31] سورة طه: آية 18.
[32] سورة القصص: آية 31.
[33] سورة القصص: آية 32.
[34] سورة طه: آية 25.
[35] سورة طه: آية 27.
[36] سورة طه: آية 28.
[37] سورة طه: آية 29.
[38] مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: سورة طه، ذيل الآية30.
[39] سورة مريم: آية 53.
[40] سورة طه: آية 31.
[41] سورة طه: آية 32.
[42] سورة طه: آية 33-35.
[43] سورة طه: آية 36.
[44] سورة الشعراء: آية 16.
[45] سورة الشعراء: آية 17.
[46] سورة الشعراء: آية 18.
[47] سورة الشعراء: آية 19.
[48] سورة الشعراء: آية20.
[49] سورة الشعراء: آية 21.
[50] سورة الشعراء:آية22.
[51] الشعراء: آية 23.
[52] سورة الشعراء: آية 24.
[53] الشعراء: آية 25.
[54] الشعراء: آية 26.
[55] الشعراء: آية 27.
[56] الشعراء: آية 28.
[57] الشعراء: آية 29.
[58] سورة الأعراف: آية 108.
[59] سورة الشعراء: آية 34.
[60] سورة الشعراء: آية 35.
[61] سورة الزخرف: آية 51.
[62] سورة الشعراء: آية 35.
[63] سورة الشعراء: آية 36.
[64] سورة الشعراء: آية 37.
[65] سورة الشعراء: آية 38.
[66] سورة الشعراء: آية 39.
[67] سورة الشعراء: آية 40.
[68] سورة الشعراء: آية 42.
[69] سورة يونس: آية 80.
[70] الشعراء: آية 44.
[71] طه: آية 66.
[72] طه: الآية 67.
[73] الشعراء: آية 45.
[74] الشعراء: آية 46.
[75] سورة الشعراء: آية 47.
[76] الشعراء: آية 48.
[77] سورة الشعراء: آية 49.
[78] سورة الشعراء: آية50.
[79] سورة الشعراء: آية 51.
[80] سورة التحريم: آية 11.
[81] بحار الأنوار، المجلسي: ج29، ص345.