{لزوم الاعتقاد الحق بالله سبحانه والدار الآخرة، فلا يفرّطنّ أحدكم بهذا الاعتقاد بحالٍ بعد أن دلّت عليه الأدلّة الواضحة وقضى به المنهج القويم، فكل كائن في هذا العالم ـ إذا سبر الإنسان أغواره ـ صنع بديع يدلّ على صانع قدير وخالق عظيم، وقد توالت رسائله سبحانه من خلال أنبيائه للتذكير بذلك، وقد أبان فيها عزّ وجل أنّ حقيقة هذه الحياة ـ كما رسمها هو ـ مضمار يبلو فيه عباده أيّهم أحسن عملاً، فمن حجب عنه وجود الله سبحانه والدار الآخرة فقد غاب عنه من الحياة معناها وآفاقها وعاقبتها وأظلمت عليه المسيرة فيها، فليحافظ كلّ واحدٍ منكم على اعتقاده بذلك، وليجعله أعزّ الأشياء لديه كما هو أهمّها، بل يسعى إلى أن يزداد به يقيناً واعتباراً حتّى يكون حاضراً عنده، ينظر إليه بالبصيرة النافذة والرؤية الثاقبة، وعند الصباح يحمد القوم السرى}
من الأمور التي تكدّر صفاء العيش وتغلّظُ الحياة على الإنسان هو انعدامُ اليقين بالله عز وجل, أو ضعفُ ذلك اليقين وقلة الإلتفات اليه, وربّما يعيش شبابُنا اليومَ حالة من حالات ضعف اليقين, فتجد الإضطراب وفقدان الإتزان يظهر كصفة على سلوكه النفسي والإجتماعي, وهذا خلاف أصحاب اليقين, الذين تعلقت قلوبهم بالله تعالى فإنهم في حال آخر, وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: (بَاشَرُوا رُوحَ اَلْيَقِينِ وَ اِسْتَلاَنُوا مَا اِسْتَوْعَرَهُ اَلْمُتْرَفُونَ وَ أَنِسُوا بِمَا اِسْتَوْحَشَ مِنْهُ اَلْجَاهِلُونَ وَ صَحِبُوا اَلدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ اَلْأَعْلَى أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اَللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَ اَلدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ)[1].
واليقين الذي أشار إليه سماحة السيد دام ظله هو الإيمان بوجود الصانع جل وعلا , والإقرار بوحدانيته وصفاته الحاكية عن الكمال المطلق, بهذا المقدار لا أكثر , فلا يذهب الذهن الى المعاني الأخرى لليقين التي تتبناها بعض طرق العرفان وغيرهم.
ولا يظنُّ أحدٌ أنّ تحصيل المرتبة المطلوبة من مراتب اليقين أمرٌ صعب المنال, وربّما يكون هذا تصوّراً ناشئاً من عدم الالتفات الى طرق تحصيل اليقين, والتي أهمها التفكر , نعم التفكر يقود الى اليقين بالله عز وجل من حيث وجوده, ومن حيث صفاته, ومن حيث إحاطته وقيوميته على العباد, كيف لا والباري عز وجل أخبرنا ودلّنا على نفسه (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق -16) فكل كائن في هذا العالم ـ إذا سبر الإنسان أغواره ـ صنع بديع يدلّ على صانع قدير وخالق عظيم.
وكان من وظائف الرسل التي أرسلهم الله تعالى هو هداية الناس الى اليقين بالله تعالى (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (ابراهيم -10)
لذا فنحنُ كلُّنا مُطالبون بأن نترقّى عن عالم المادة ، ونعيش عالم العلاقة مع الله تعالى، الذي هو المُفيض للوجود المستجمع لصفات الكمال, لتحصيل الكمال الروحي للإنسان, وطريقنا الى هذه الغاية هي مقاومة الطبيعة المتثاقلة للإنسان تجاه هذه العلاقة، التثاقل الذي يمدّه الشيطان بماء البقاء والإستمرار والإستقرار في النفس الإنسانية, لكي تخلو من متعلقاتها الروحية ويقتصر تفكيرصاحبها على عالم الماديّات كما قلنا.قال الله عز وجل : (مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بالْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ) التوبة 38.
والآية الكريمة وإنْ كانت تحكي عن التثاقل والتقاعس عن الجهاد, إلّا أنّها تقرّر أنْ جنبة التثاقل عن الأمور المختلفة يمكن أنْ تتفعّل عند الإنسان في جانب ما إذا ابتعد عن الله، وإذا اعتبرنا أنّ الجهاد والغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مصاديق العلاقة مع الله ـ وهو ليس ببعيد ـ تكون الآية مطابقة وصادقة على موضوعنا.
وأهم آثار اليقين حصول صفة الطمأنينة عند الإنسان قال تعالى: ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ﴾ (الرعد 28 ) فالطمأنينة ، وسكون القلب حالة تابعة لدرجة اليقين, فالقلب الذي يعيش حالة اليقين بالله عزوجل يكون إنساناً مطمئنّاً . نعم هذا الإطمئنان من النوع الذي وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة : {فهمْ والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، كأنّ زفير جهنم في أصول آذانهم}[2] وهذا الأثر الروحاني أثرٌ مهمٌ وأساسيٌ لليقين ، وطوبى لإنسانٍ يعيش هذه الحالة .