استغفار الأئمة (عليهم السلام)

لا يشكّ أحد ممّن ينتمي لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) معصومون عن كلّ نقص، لا يفعلون ذنباً ولا أدنى معصية، بل لا تكون المعصية عندهم مقدّمة لطاعة وإن كانت كبيرة، ومع ذلك ورد عنهم (عليهم السلام) الإكثار من الاستغفار وطلب العفو من الله تعالى، وهذا النوع من الاستغفار -بلا ذنب- له عدّة وجوه:

الأول: الوجه التربوي، أو التعليمي، فإنّ الدعاء بحدّ نفسه له أثره في تربية المسلمين وحثِّهم على ترك الذنوب والمعاصي وأدواتها، والتوجه إلى الباري (عزّ وجلّ)، لذلك أكثر الأئمّة من الدعاء سواء بالاستغفار أو غيره من الذكر؛ لاهتمامهم به كوسيلة تربوية لثقافة المسلمين، وملؤوا أوقاتهم ليلاً ونهاراً بالأدعية المؤثرة لمختلف الطبقات والحالات والمناسبات، ومن خلال ذلك
تمكنوا (عليهم السلام) من التأثير في الأُمّة من الجانب الروحي والعقائدي، فكان أصحابهم من أتقى وأورع الناس في زمانهم، ولولا هذا الكم والكيف من الأدعية لما كنَّا اليوم نعرف كيف نخاطب ربّ العالمين وربما نخالف الأدب مع خالقنا (جلّ وعلا).

كذلك يُعدّ الدعاء في ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) مدرسة علمية روحية تأسَّست منذ زمن الأنبياء السابقين، وقد زيّنها وقوّمها أئمّتنا (عليهم السلام) من أجل تعليم الناس؛ لذا فاستغفارهم في كثير من الأدعية إنّما هو بهذا الهدف.

الوجهُ الثاني: أنّ الأئمّة (عليهم السلام) يعدّونَ أنفسَهم مُقصِّرينَ في مقابلِ نِعَمِ الله الكثيرة عليهم، ومِنَحه لهم مِن كمالاتٍ ومقاماتٍ، فقد اصطفاهم الله وكرّمَهم وجعلَهم قدوةَ الخلقِ أجمعين، كما خاطب اللهُ تعالى نبيّنا الكريم: (وكانَ فضلُ اللهِ عليكَ عظيماً)[1].

فإنّ الفضل والشرف والكمال الذي تفضّل الله به عليهم (عليهم السلام) لم يهبه أحداً مِن خلقِه؛ لذا فهم ينظرونَ إلى أنفسِهم نظرَ التّقصيرِ من هذا الجانب، وأنّهم لا يستطيعونَ أداءَ حقِّ تلكَ النّعمِ الجسيمةِ، ولا طريقَ لهم سوى الاعتراف بالعجزِ عَن أداءِ حقِّ تلكَ النِّعمِ، والتّوبةِ والاستغفار مِن هذا التّقصيرِ في مُقابلِ ما تفضّلَ اللهُ عليهم.

كما أنّهم ينظرون إلى عباداتهم أنّها ليسَت في مقامِ أداءِ حقِّ لله ومقام الربوبية، فهُم مِن جهةٍ ينظرونَ إلى نِعَمِ اللهِ عليهم، ومِن جهةٍ أُخرى ينظرونَ إلى عباداتِهم، فيرونَ من جانبهم أن لا تناسبَ بينَ ما أنعمَ اللهُ عليهم، وبينَ ما تفضّلَ اللهُ عليهم؛ ولذا يستغفرونَ اللهَ مِن عباداتِهم وأعمالهم.

وهذا لا يعني التقصير الحقيقي، بل نظرةُ الإنسانِ إلى نفسِه بالتّقصيرِ أمام المُنْعِمِ تكونُ سبباً لتطوّرِه ورفعةِ درجاتِه ورِضا ربِّه عليه.

الوجهُ الثالث: إنّ استغفار الأئمّة (عليهم السلام) في الواقع هو استغفار لأُمّتِهم وشيعتِهم، فإنّ الأنبياءَ والأئمّةَ بما أنّهُم حججُ اللهِ، وشيعتُهم وأتباعُهم يذنبونَ ويعصون الله تعالى أحياناً، يقومُ الأنبياءُ والأئمّةُ بتقديمِ الاعتذار إلى اللهِ مِن أفعالِ أتباعِهم؛ لأنّهم المسؤولونَ عنهُم، كذلك من حبّهم لأتباعهم هم يستغفرون لهم.

ومثل هذا ما لو أساء شخصٌ بإساءةِ معينة، فيقومُ أبوهُ أو شيخ عشيرتِه بتقديمِ الاعتذار ويقدّم المواثيق بعدمِ تكرارِ الإساءةِ، والمقابل كذلك يقبل ذلك ويعفو عن المُسيء.

الوجهُ الرابع: إنّ استغفارهم (عليهم السلام) مِن بابِ الانشغال بالمُباحاتِ والضّروراتِ الدّنيويّةِ، فهوَ استغفار حقيقيٌّ وليسَ تعليميّاً فحسب، ولا مِن بابِ مُجرّدِ التّواضعِ، وقد وضّح هذا الوجه الإربلي بقوله: «إنَّ الأنبياءَ والأئمّةَ (عليهم السلام) تكونُ أوقاتُهم مشغولةً باللهِ تعالى، وقلوبُهم مملوءةً بهِ، وخواطرُهم متعلّقةً بالملأ الأعلى، وهُم أبداً في المُراقبةِ، كما قالَ (عليه السلام): أُعبدِ اللهَ كأنّكَ تراهُ فإن لم ترَه فإنّهُ يراكَ. فهُم أبداً مُتوجّهونَ إليهِ، ومُقبلونَ بكلِّهم عليهِ، فمتى انحطّوا عن تلكَ الرّتبةِ العاليةِ، والمنزلةِ الرّفيعةِ، إلى الاشتغال بالمأكلِ والمشربِ، والتّفرّغِ إلى النّكاحِ، وغيرِه منَ المُباحاتِ عدّوهُ ذنباً، واعتقدوهُ خطيئةً، واستغفروا منهُ، أَلا ترى أنَّ بعضَ عبيدِ أبناءِ الدّنيا لو قعدَ وأكلَ وشربَ ونكحَ وهوَ يعلمُ أنّهُ بمرأىً مِن سيّدِه ومسمعٍ؛ لكانَ ملوماً عندَ النّاسِ، ومُقصّراً فيما يجبُ عليه مِن خدمةِ سيّدِه ومالكِه، فما ظنُّكَ بسيّدِ السّاداتِ وملكِ الأملاك.

وإلى هذا أشارَ (عليه السلام) أنّهُ: لَيُرانُ على قلبي وإنّي لأستغفرُ بالنّهارِ سبعينَ مرّةً. ولفظةُ السّبعين إنّما هيَ لعدِّ الاستغفار لا إلى الرّينِ وقوله: حسناتُ الأبرارِ سيّئاتُ المُقرَّبينَ، ونظيرُه إيضاحاً مِن لفظِه ليكونَ أبلغَ منَ التّأويلِ... فقد بانَ بهذا أنّهُ كانَ يُعدُّ اشتغاله في وقتٍ ما بما هوَ ضرورةٌ للأبدانِ معصيةً يستغفرُ اللهَ منها»[2].

مجلة ولاء الشباب العدد (66)

 


[1] النساء: آية 113.

[2] كشفُ الغُمّةِ في معرفةِ الأئمّةِ، الإربلي: ج٣، ص47.