عشية يوم عاشوراء نظرت زَيْنَب إِلى أَرض طف فإِذا بها مثخنة بالجثث الطواهر، وهي تتناثر فوق مساحة واسعة كالأَضاحي، وقد فُصلت الرؤوس وسُلبت الأَجساد الطاهرة، وفي جانب آخر رمقت بقايا خيم محترقة، وثُلَّةً من الأَطفال المذعورين والنساء المفجوعات يتراكضون على غير هدى، وأَصواتهم ترتفع تارة بالبكاء على ذويهم، وأُخرى ينادون العطش العطش.
وقد أَحاط بهذا الوادي جيش لَجب، انتشى بالنصر وتشبع بروح الهمجية.
إِن مجرد تصور هذه الصورة الفجيعة تجعل أَكثر الناس حلماً ينهار، ولكن زَيْنَب (عليها السلام) بقيت صَامَده، ماذا فعلت؟ لملمت الأَطفال، وهَدّأت النساء وصَبَّرتهم، ثم قامت لربها تُصلي، ولعلها كانت تدعوا الله لكي يمنحها الصبر، وأَن يتقبل من آل محمد (صلى الله عليه وآله) هذه القرابين، كما كان دعاء أَخيها الإِمام الحسين(عليه السلام)
في اللحظات الأَخيرة من حياته الكريمة حيث قال: (اَللّـهُمَّ اَنْتَ مُتَعالِي الْمَكانِ، عَظيمُ الْجَبَرُوتِ، شَديدُ الِمحالِ، غَنِيٌّ َعنِ الْخَلايِقِ، عَريضُ الْكِبْرِياءِ، قادِرٌ عَلى ما تَشاءُ، قَريبُ الرَّحْمَةِ، صادِقُ الْوَعْدِ، سابِغُ النِّعْمَةِ، حَسَنُ الْبَلاءِ، قَريبٌ إذا دُعيتَ، مُحيطٌ بِما خَلَقْتَ، قابِلُ التُّوبَةِ لَمَنْ تابَ اِلَيْكَ، قادِرٌ عَلى ما اَرَدْتَ، وَمُدْرِكُ ما طَلَبْتَ، وَشَكُورٌ اِذا شُكِرْتَ، وَذَكُورٌ اِذا ذُكِرْتَ، اَدْعُوكَ مُحْتاجاً، وَاَرْغَبُ اِلَيْكَ فَقيراً، وَاَفْزَعُ اِلَيْكَ خائِفاً، واَبْكي اِلَيْكَ مَكْرُوباً، وَاَسْتَعينُ بِكَ ضَعيفاً، وَاَتوَكَّلُ عَلَيْكَ كافِياً، اُحْكُمْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا فَاِنَّهُمْ غَرُّونا وَخَدَعُونا وَغَدَروا بِنا وَقَتَلُونا، ونَحْنُ عِتْرَةُ نَبِيِّكَ، وَوَلَدُ حَبيبِكَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللهِ، الَّذي اصطَفَيْتَهُ بِالرِّسالَةِ، وَائْتَمَنْتَهُ عَلى وَحْيِكَ، فَاجْعَلْ لَنا مِنْ اَمْرِنا فَرَجاً وَمَخْرجاً بِرَحْمَتِكَ يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ)[1].
ثم قال(عليه السلام): (صَبْراً على قَضَائِكَ يَا ربّ، لا إِلهَ سِواكَ، يَا غِياثَ المُستغيثينَ) .
بلى هذا الإِيمان الخالص الذي تجلى في كلمات السبط الشهيد (عليه السلام) في تلك اللحظات الحاسمة، وذلك الموقف الذي تجلى عند الصديقة زَيْنَب (عليها السلام) بعد الشهادة طبع المسيرة الحسينية بطابع توحيدي خالص.
هكذا تحمّلت (عليها السلام) تلك المصائب العظيمة التي احتسبتها عند الله، ثم عادت إِلى حيث كان المخيم فلما انتصف الليل أَخذت تصلي نافلة الليل من جلوس من عظم المصيبة.
وقبل أَيام حينما نزلت قافلة السبط في أَرض الطف، جلس الإِمام الحسين (عليه السلام) أَمام خيمته، وأَخذ يُصلح سيفه، وهو يتمثل بأَبيات كانت العرب تنشدها عندما يحس أَحدهم بالخطر الداهم، وهو يقول:
يا دهر أُفٍ لك من خليل |
|
كم لك بالإشراق والأصيل |
من صاحب وطالب قتيل |
|
والـدهر لا يقنـع بالبديل |
وإنما الامر إلى الجليل |
|
وكل حي سالك سبيلي |
فلما سمعت أُخته الصديقة زَيْنَب(عليها السلام) ذلك فصاحت وأَثكلاه ليت الموت أَعدمني الحياة.
ثم تجمعت في ذاكرتها مصائبها فقالت: (اليوم ماتت أُمي فاطمة، وأَبي علي، وأَخي الحسن، يا خليفة الماضين، وثمال الباقــين)، فنــظر إِليها الحسين(عليه السلام) وقال لها: (يا أُختاه لا يذهبن بحلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدموع، وقال: لو تُرك القَطا لنام، فقالت: يا ويلتاه افتغتصب نفسك اغتصاباً، فذلك اقرحُ لقلبي، واشدُّ على نفسي)، ثم لطمتْ وجهها، وخرت مغشيةً عليها.
فقال لها الإِمام الحسين(عليه السلام) بعد أَن أَفاقت: (يا أُختاه تعزّي بعزاء الله، واعلمي أَن أَهل الأَرض يموتون، وأَهل السماء لا يبقون، وإِن كل شيء هالك إِلا وجه الله تعالى، الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون وهو فرد وحده).
ثم قال لها: (يا أُختاه إِني أَقسمت عليك فابرّي قسمي، لا تَشُقّي عليَّ جَيْباً، ولا تخمشي عليَّ وجها، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور، إِذا أَنا هلكت)[2]، ومنذ تلك اللحظة حين عرفت زَيْنَب أَن مسؤوليتها توجب عليها الصبر جلدت، واحتسبت الله في صبرها.