بسم الله الرحمن الرحيم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ* وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[1].
سبب النزول:
جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي أنّه بعد نزول آيات الربا جاء (خالد بن الوليد) إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال: كانت لأبي معاملات ربوية مع بني ثقيف، فمات ولم يتسلم دينه، وقد أوصاني أن أقبض بعض الفوائد التي لم تدفع بعد. فهل يجوز لي ذلك؟ فنزلت الآيات المذكورة تنهي الناس عن ذلك نهياً شديداً[2].
وفي رواية أخرى أنّه بعد نزول هذه الآية قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أَلا إنّ كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس»[3].
يتضح من هذا أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حملته لإلغاء الديون الربوية في الجاهلية قد بدأ بأقربائه أولاً. وإذا كان بينهم أشخاص أثرياء مثل العباس ممن كانوا مثل غيرهم يتعاطون الربا في الجاهلية، فقد ألغى رسول الله(صلى الله عليه وآله) -أولاً- ربا هؤلاء.
وجاء في الروايات أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) بعد نزول هذه الآيات أمر أمير مكة بأنّه لو استمر آل المغيرة الذين كانوا معروفين بالربا في عملهم فليقاتلهم.
وممّا يلفت النظر أنّ تفسير (الدر المنثور) ينقل بطرق عديدة أنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولا يستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار.
وهذا لا يتناقض مع كون سورة البقرة ليست آخر سورة نزلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله)؛ لأنّ بعض الآيات كما نعلم كانت توضع في سورة سابقة عليها أو لاحقة لها، وذلك بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه.
التفسير:
في الآية الأولى يخاطب الله المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثم يأمرهم أن يتنازلوا عمّا بقيَّ لهم في ذمة الناس من فوائد ربوية.
يلاحظ أنّ الآية بدأت بذكر الإيمان بالله واختتمت بذكره، ممّا يدل بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان بالله.
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ). تتغير في هذه الآية لهجة السياق القرآني، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ، تهاجم هذه الآية المرابين بكل شدة، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر الله في الحق والعدل واستمروا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلّا أن يتوسل بالقوة لإيقافهم عند حدهم وإخضاعهم للحق، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم.
وهي الحرب التي تنطلق من قانون: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ)[4].
(فَأْذَنُوا) من مادة (أذن) وكلما كانت متعدية بالأمر بالمعنى هو السماح وإذا تعدت بالياء فتعني العلم فعلى هذا يكون قوله: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)، يعني: أعلموا أنّ الله ورسوله سيحاربوكم وهذا في الحقيقة بمثابة إعلان الحرب على هذه الفئة، فعلى هذا ليس من الصحيح ما ذهب إليه البعض في معنى هذه الآية بأنّه: (اسمحوا بإعلان الحرب من الله).
لذلك عندما سمع الإمام الصادق(عليه السلام) أنّ مرابياً يتعاطى الربا بكل صراحة ويستهزئ بحرمته هدده بالقتل.
عن أبي بكير قال: بلغ أبا عبد الله الصادق(عليه السلام) عن رجل أنّه كان يأكل الربا ويسميه اللبا. فقال: «لئن أمكنني الله عز وجل [منه] لأضربن عنقه»[5].
ويتضح من هذا الحديث أنّ حكم القتل إنّما يخصّ الذين ينكرون تحريم الربا في الإسلام، وأنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسل بالقوة لمكافحة الربا.
(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ). أما إذا تبتم ورجعتم عن غيكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط (بغير ربح). وهذا قانون عادل تماماً؛ لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم.
إنّ تعبير لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان قد جاء بشأن المرابين، ولكنّه في الحقيقة شعار إسلامي واسع وعميق، يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم تجنب الظلم، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم. وفي الحقيقة لو قلَّ الذين يتحملون الظلم لقلَّ الظالمون أيضاً، ولو أنّ المسلمين أعدوا العدة الكافية للدفاع عن حقوقهم لما تمكن أحد أن يعتدي على تلك الحقوق ويظلمهم. فقبل أن نقول للظالم: لا تظلم، علينا أن نقول للمظلوم: لا تستسلم للظلم.
(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ). استكمالاً لبيان حق الدائن في الحصول على رأسماله (بدون ربح) تبين الآية هنا حقاً من حقوق المدين إذا كان عاجزاً عن الدفع، ففضلاً عن عدم جواز الضغط عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل مزيداً من الوقت لتسديد أصل الدين عند القدرة والاستطاعة.
إنّ القوانين الإسلامية التي جاءت لتوضيح مفهوم هذه الآية تمنع الدائن من استيلاء على دار المدين وأمتعته الضرورية اللازمة لقاء دينه، وإنّما للدائن أن يأخذ الزائد على ذلك. وهذا قانون صريح وإنساني يحمي حقوق الطبقات الفقيرة في المجتمع.
(وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية، أي: إنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث الحقوقي المتقدم.
تقول الآية الأفضل للدائنين أن يخطو خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عمّا بقيَ له بذمته، فهذا خير عمل إنساني يقوم به، وكل مَن يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة.
مجلة بيوت المتقين العدد (94)