المزاح واثاره

يتعامل الناسُ فيما بينهم بحسب أمزجتهم النفسية، فصاحبُ الخلُق الحسن يعامل الناس من منطلق صفاءِ نفسه ودماثة خلُقه، وسيءُّ الخلق يكشف للناس الكدورةَ التي تُطْبق على جوانحه، وقد تتغير طبيعة تعامل الإنسان مع الآخرين بحسب ما يمر به، فقد يسوء خلقُ المرء حين الغضب والاشمئزاز ويحسن عند الراحة والاستبشار، لذا جاء الدينُ الحنيف ليقوّم الإنسانَ ضمن ضوابط تمنعه من تجاوز ما لا يجوز له تجاوزُه، ويهذّبه لتكون فيه مكارم الأخلاق سجيةً بدل أن تكون صفة تطرأ عليه في حين وتزول في آخر، أو تكون مزاجاً مؤقتاً.

ومن الجوانب الاجتماعية المهمة التي قررتها الشريعةُ ووضعت لها ضوابطَها هي حالة المزاح، فقد نجد في حياتنا أصنافاً من الناس يختلفون في جدهم وهزلهم أو في وقارهم ومزاحهم بحسب اختلاف أمزجتهم وطباعهم، فمنهم من نجده وقد غلب عليه المزاحُ حتى تمادى في هزله مع إخوانه ومن عاشره، فصار المزاح صفة ملازمة له، وتقمّص الحالةَ الهزلية حتى كأن لم يعد له في حياته سوى الضحك واللعب، ومنهم من غلب عليه عكس ذلك، فلا يكاد أن يجرأ شخصٌ أن يبتسم في وجهه فضلاً عن أن يمازحه أو يداعبه، قد حمل مجامع الأمور كلها على محمل الجد، فلا مرونة في حياته وتصرفاته، ولا مسامحة مع الآخرين، ومنهم من كان بين هذا وذاك، له قسطه من المزاح إذا اقتضى الحال وناسب المقام، والقسط الآخر من حياته جد يخالطه بعض المرونة.

فأيّ من هؤلاء أصوب في طريقته وأسلم في حياته مع الناس؟ وهل الإسلام نهى عن المزاح أم امتدحه؟ وهل كان النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته يمزحون؟ إذن ما هي الضوابط؟.

كثرة المزاح:

ربما تكون الزيادة في بعض الأشياء سبباً في صيرورتها إلى ضد النتيجة المرجوة منه، وقد يكون حتى الممدوح مذموماً مع إكثاره.

وفي باب الضحك والمزاح وردت العديدُ من الأخبار الشريفة، فقد روى الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله): (كثرةُ المزاح تذهب بماء الوجه)[1].

وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما مزح رجل مزحة إلا ومُجّ من عقله مُجّة)[2].

وعن عمار بن مروان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا تمار فيذهب بهاؤك ولا تمازح فيجترأ عليك)[3].
إذن؛ يتلخص مما ورد من كلامهم (عليهم السلام) أن الأضرار التي تلحق بكثرة الضحك والمزاح هي:

أولاً: إماتة القلب، وذلك يؤدي إلى الغفلة عن الله تعالى وعن ذِكره.

ثانياً: محو الإيمان محواً، وكذا فالإكثار يمجّ العقل والإيمان مجّاً.

ثالثاً: يُسقط المهابة والوقار، ويذهب بماء الوجه، ولا شكّ أنّ ذلك سيؤدي إلى اجتراء السفهاء على المازح وإسقاطه من أعين الناس.

رابعاً: وقد يؤدي الإكثارُ من الضحك والمزاح والهزل إلى الكراهية والضغينة والعداوة والبغضاء.

قال بعضهم لابنه: يا بني، لا تمازح الشريفَ فيحقد عليك، ولا تمازح الدنيَّ فيجترئ عليك.

وقال آخر لنفسه: أتضحك ولعلّ أكفانك قد خرجت من عند القصّار أي: (محوِّر الثِّياب ومبيِّضها).

والذي يُستفاد مما تقدم أنّ المزاح والهزل وكثرة الضحك لا تلازم الذاكر لله تعالى ولحسابه وعقابه وللموت والنشر، إنما هي صفاتٌ تقترن بالغافلين عن يوم الحساب، الناسين لذكر الله تعالى ممن ضَعُفَ الإيمان في قلوبهم، فرجحوا الهزلَ على الجد واللعبَ على العمل.

ولكن، هل يعني هذا أن المؤمن لا يمزح أبداً؟!

علينا أن نطلع على سيرة المعصومين (عليهم السلام) وما صدر عنهم في هذا الخصوص مزاح النبي (صلى الله عليه وآله) وردت في العديد من الأخبار أن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يمزح، وكان يضحك، وكان ضحكه التبسم، فما هو نوع المزاح الذي كان يمزحه (صلى الله عليه وآله)؟

رُوي في الأثر أن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يقول: (إني لأمزح، ولا أقول إلاّ حقاً)[4].

ومن طرائف ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه رأى ذات يوم جملاً عليه حنطة، فقال: (تمشي الهريسة)[5].

وقال للعجوز الأشجعيّة: (يا أشجعيّة، لا تدخلُ العجوزُ الجنة، فرآها بلال باكية، فوصفها للنبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: والأسوَد كذلك، فجلسا يبكيان، فرآهما العباس فذكرهما له، فقال: والشيخ كذلك، ثم دعاهم وطيّب قلوبهم، وقال: يُنشئهم الله بأحسن ما كانوا، وذكر أنهم يدخلون الجنة شبّاناً منوّرين، وقال: إن أهل الجنة جرد، مرد، مُكحَّلون)[6].

مزاح المؤمن: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (المؤمنُ دَعِبٌ لَعِب، والمنافق قَطِبٌ غَضِب)[7].

وعن يونس الشيباني قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟ قلت: قليل، قال: فلا تفعلوا، فإن المداعبة من حسن الخلق، وإنك لَتُدخل السرور بها على أخيك، ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يداعب الرجلَ يريد أن يَسُرَّه)[8].

ولا شكّ أن الدعابة ومفاكهة الإخوان المذكورة هنا هي الحالة التي ترافق المؤمن بميزانها الصحيح والقويم، تكون الغاية منها هي إدخال السرور على قلب المؤمن بشكل من الملاطفة الخفيفة غير المؤذية، دون أن تكون مدعاة لسقوط المهابة والوقار للمازح أو الإيذاء والتجريح للممزوح معه، هذا فضلاً عن أن يكون ـ والعياذ بالله ـ نوعاً من الهزل الذي يُنسي ذكرَ الله تعالى، أو يؤدي إلى إماتة القلب والغفلة، فينبغي أن لا ينسى المرءُ المؤمن أن لا يقول إلا صدقاً وحقاً.

فالمزاح والضحك بالمعنى الهزلي مذموم، ولكن المؤمن يمزح شرط أن لا يقول إلاّ حقاً، فإن خلا المزاح من الاستهزاء بالله تعالى ونبيه ودينه وعباده المؤمنين، ولم يؤدِّ إلى إيذاء المؤمن أو ترويعه أو غيبته أو بهتانه وقذفه أو الاستهزاء به، وكان المزاح في محله، فهو ممدوح غير مذموم، وأما خلاف ذلك فممقوت.

 


[1] الكافي: ج2، ص665.

[2] بحار الأنوار: ج73، ص61.

[3] الكافي: ج2، ص665.

[4] مكارم الأخلاق، الطبرسي: ص21.

[5] مناقب آل أبي طالب: ج1، ص128.

[6] بحار الأنوار: ج16، ص295.

[7] تحف العقول: ص49.

[8] الكافي: ج2، ص663.